نستذكر ملاحم البطولة والتضحية التي صنعتها عزائم الأبطال وسطرها الأجداد في سفر التاريخ ونسلط الضوء هنا على معركتين هامتين من معارك الثورة، الكفر والمزرعة حيث لقنتا المستعمر الفرنسي درساً لن ينساه أبداً فسيوف المجاهدين وبلطاتهم وأسلحتهم التقليدية فعلت فعلها وأبطلت صوت مدافع ودبابات وطائرت العدو وزرعت الخوف في نفوس المحتلين،
ونبدأ من معركة الكفر ففي العشرين من تموز عام 1925 انطلقت حملة فرنسية الى الكفر بقيادة نورمان الذي أمر جنوده بالتمركز عند نبعها حيث بلغ عددهم 200 جندي وضابط مجهزين بأحدث الأسلحة، علم الثوار بوجود الحملة فأرسلوا رسولا ينذرهم بالانسحاب من البلدة ولكن نورمان قائد الحملة أجاب بالرفض.
وهدد بأنه سيلقي القبض على سلطان الأطرش ورفاقه الثوار وقال إنه يستطيع أن يقتل ثلاثة آلاف رجل بالرشاش الذي يحمله والتفت إلى باقي أعضاء الوفد وقال لهم: اذهبوا إلى سلطان وقولوا له إنني بانتظاره على أحر من الجمر في هذا المكان نقلت أجوبة نورمان إلى الثوار فلم يدعوه ينتظر طويلا إذ ساروا مباشرة من صلخد إلى الكفر وتوزعوا إلى قسمين: المشاة ساروا في الطريق الوعرة من ناحية الشرق والفرسان في طريق أقل وعورة من ناحية الغرب وبدأت معركة حامية الوطيس لكنها لم تدم أكثر من نصف ساعة حتى إنه لم يتح لبعض الثوار الاشتراك فيها وحالت سرعة الهجوم وهول المفاجأة بين الفرنسيين فسكتت رشاشاتهم واغمد الثوار سيوفهم وخناجرهم في رقاب المعتدين الفرنسيين وسقط نورمان صريعاً ولم ينج من جنوده إلا خمسة.
أما خسائر الثوار فكانت أربعة وخمسين شهيداً وتعتبر معركة الكفر مثلاً حياً للغارة الناجحة رفعت من معنويات الثوار وزودتهم بالسلاح والعتاد اللازمين للمعارك المقبلة، بعد الانتصار الذي حققه الثوار في معركة الكفر دفع ذلك الجنرال ساراي بإعطاء الأوامر إلى الجنرال ميشو لإخماد الثورة خلال 48 ساعة، في هذه الآونة باشر الثوار انتشارهم وفي صباح اليوم الأول من آب تمت مناوشة الجيش الفرنسي من جهات بصرى الحرير لإعاقة تقدمه لكنه تابع زحفه، حتى وصل إلى تل الخروف.
وفي صباح اليوم الثاني قام الثوار بهجوم عنيف فتصدى لهم فرسان سباهيس وشاغلوهم لبعض الوقت وانسحبوا أمامهم حسب خطة موضوعة من قبل الجنرال ميشو لاستدراجهم إلى الكمين المعد لهم في تل الخروف حيث استشهد العشرات من الثوار أمام المتاريس والاستحكامات الفرنسية.
أمام هذه الضربة الموجعة انسحب الثوار الى نبع المزرعة الذي تعرض لقصف فرنسي تمهيدا للتقدم إليه، لقد حسب ميشو أن انتصاره كان حاسما وان الثورة قد انتهت وان طريق السويداء أصبحت مفتوحة فتابع السير إلى نبع المزرعة فاصلاً بين مقدمة حملته ومؤخرتها، فاستغل الثوار هذه الفرصة وانقضوا على مؤخرة الحملة حيث العتاد والذخيرة والمؤن وطالت سيوفهم رقاب أفرادها وأبادوا معظمهم، وفي الثالث من آب زحف الثوار بقيادة سلطان باشا الأطرش واستطاعوا الوصول عند الفجر إلى نبع المزرعة وأحاطوا بالجيش الفرنسي الذي خيم عنده وأقاموا الاستحكامات حوله فانقضوا عليهم كالعقبان وبدأت معركة حامية الوطيس حيث التحم الثوار مع الفرنسيين بالسلاح الأبيض وأبطلوا عمل أسلحتهم الثقيلة، واستطاعوا أن يبيدوا بالسيوف والخناجر والفؤوس حملة تفوقهم عدداً وعدة وسطروا في سفر التاريخ أروع ملاحم البطولة والرجولة والفداء.
وقال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي حضر إلى موقعة المزرعة ودون وقائعها بدقة لقد زرت ساحة هذه الملحمة مراراً، وحاولت أن أحصي عدد الجثث الملقاة فيها فلم أفلح لكثرة عددها، ولقد مشيت من عين المزرعة على الطريق المعبدة غرباً نحو ساعتين بين الجثث والعتاد الملقى على الأرض فلم انته منها، ورأيت خمس سيارات مصفحة محروقة وقد أمالها الثوار على جوانبها حين الهجوم بأكتافهم ورأيت المدافع ذات العيارات المختلفة عدداً لم أتمكن من ضبطه والقنابل كانت مكومة على جانبي الطريق، وأمشاط الرشاشات في الخنادق على الجانبين وقد أطلعني احد المتصلين بالمفوضية في بيروت على إحصاء ما فقده الفرنسيون في تلك المعركة أكثر من اثنين وخمسين مليوناً من الفرنكات الفرنسية، وفي هذه المعركة أبيد الجيش الفرنسي الذي بلغ عدده 12000 فرنسي ولم يسلم منه إلا 1200 لم يصلوا إلى السكة الحديدية في قرية ازرع إلا بشق الأنفس.
بعد مرور 67 عاماً على جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن التاريخ اليوم يعيد نفسه فشعبنا الأبي في سورية وجيشنا العربي السوري يخوض معركة أشد ضراوة من التي خاضها ضد الاستعمار الفرنسي حيث تكالبت عليه قوى الشر والعدوان من كل حدب وصوب وأدواتهم العميلة في الداخل والخارج والتي تستهدف كل مقومات وجودنا وسخرت كل ما لديها من مال وسلاح ومرتزقة وأصحاب الفكر التكفيري الظلامي الإرهابي لتحقيق أهدافها الاستعمارية لكن هيهات منا الذل والهزيمة فإرادة الشعب وكفاحه العنيد ضد الاستعمار الذي انتزع الاستقلال لهو قادر اليوم وبهمة جيشنا العربي السوري الباسل على انتزاع النصر من المتآمرين على هذا الوطن وأعدائه بكل أشكالهم وأنواعهم وألوانهم وسورية منتصرة على أعدائها رغم أنوف الحاقدين والمتآمرين.