البعض قد يرى الترجمة (خيانة) للنصّ الأصلي، إذ إنّ الخيانة في الترجمة هو أمر لا بدّ من حدوثه أثناء نقل النصّ من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف، لأنّ انتقال النصّ بين لغتين لا يعني انتقاله في اللغة وحسب، بل يعني انتقاله إلى ظروف حضارية وثقافية وفكرية أخرى مختلفة عن الظروف في اللغة الأولى، ما يؤدي إلى ظهوره في شكل مختلف عن شكله الأصلي...
د.استنبولي: (غايتها أخلاقية)
الكاتب والمترجم د. إبراهيم إستنبولي قال: تنتمي الترجمة إلى أكثر الحركات التاريخية حميميةً, وهي كانت وستبقى ضرورة للتواصل بين مختلف المجتمعات والثقافات البشرية, إذ لا يمكننا أبداً أن نتصوّر أمّةً تعيش على تراثها فقط, بل لا بدَّ لها من الانفتاح على بقية العالم والتعرف على ما يجري في أنحاء أخرى خارج حدودها في مختلف مجالات المعرفة.. ولذلك حين سئل أديبنا الكبير ميخائيل نعيمة عن الترجمة قال: « فلنترجم» وكررها ثلاث مرات.. كما لخّص جورج شتاينر في كتابه الهام جداً «ما بعد بابل» أهمية الترجمة بقوله البليغ: «أنْ نفهمَ معناه أن نُترجِم»!
وفي هذا السياق يأتي قول الأديب البرتغالي المعروف والحائز على جائزة نوبل للآداب: «إنَّ الأدب العالمي يُبدعه المترجِمون»!
بما أنَّ الترجمة في الأصل ذات بُعْد أخلاقي ولأنَّ غايتها أخلاقية فإني أنطلق من هذا المبدأ في اختياري للكتاب الذي أترجمه.. وقد يكون هذا بالنسبة لي أكثر سهولة من غيري لأنني حتى الآن لا أعتبر الترجمة مهنة بل أقوم بها كهواية وتلبية لرغبة روحية ذاتية في الدرجة الأولى.. دون أن يعني هذا لامبالاة من طرفي بذوق القارئ أو بفرص التسويق, لكن أعيد وأكرر أن ما أقوم بترجمته يجب أن يرضي أولاً ذائقتي أنا أولاً وثانياً وثالثاً..
وبعد ذلك يمكن أن يأتي دور القارئ والكسب المادي وغير ذلك, أما عن نوعية وأهمية الكتاب المترجم فأنا أعتقد انَّ المكتبة العربية تعاني من نقص كبير في عناوين كثيرة وكثيرة وفي مختلف حقول المعرفة.. وبالتالي فكل كتاب يترجم إلى العربية إنما يُغني المكتبة العربية ويضيف إليها.
وحول سؤالنا هل الترجمة خيانة قال استنبولي:
يوجد مثل هذا الرأي منذ أيام الجاحظ.. وكثيراً ما يردد البعض هذا القول بطريقة قطعية أو لِنَقُلْ ميكانيكية.. ولكن إذا ما دققنا أكثر فسوف نجد أن الترجمة كانت تعتبر خيانة فيما مضى حين كان الأمر يتعلق بترجمة القرآن والشعر وخصوصاً الشعر الموزون والمقفّى.. ولكن بعد أن أصبحت قصيدة النثر هي السائدة... يمكن الجزم بأنَّ ترجمة الشعر باتت أبعد عن تهمة الخيانة بمسافة آمنة جداً.. وأنا أرى أنه لم تعد ثمة مشكلة في ترجمة النصوص الشعرية لكن يبقى من الضروري أن ننقل بأمانة موسيقا النص الأصلي وصوره بطريقة دقيقة وجميلة معاً.
ثمَّ, يجب التمييز بين ترجمة النصوص الأدبية ومنها الشعر وبين النصوص العلمية والتقنية والسياسية..وإذا كانت ترجمة الشعر خصوصاً, والنصوص الإبداعية عموماً تتطلب معرفة عميقة بثقافة الشعب الذي تتم الترجمة عن لغته كما بثقافة الشعب الذي تجري الترجمة إلى لغته, فإن ترجمة النصوص والأبحاث العلمية تتطلب بشكل أساسي معرفة اللغتين - المُترجَم عنها والمترجم إليها - بشكل جيد.. وبالتحديد معرفة المصطلحات التقنية والتعابير والإشارات والرموز العلمية بدرجة كافية وحسب.. دون أن يحتاج المترجم إلى معرفة عميقة بتقاليد وعادات وثقافة الشعب الذي يترجم عن لغته.
أما أنا شخصياً فأجد في نفسي ميلاً أكبر لترجمة النصوص الأدبية (الشعر والرواية والدراسات النقدية) وأيضاً العلوم الاجتماعية والسياسية.. إلى جانب ما أدعوه بالأدب الطبي إنْ صحَّ التعبير.. (مثلاً قمت بترجمة كتاب يتحدث عن بعض جوانب الطب النفسي بعنوان «رحلة صيد وراء الفكرة»)..
وأضاف: بكل صراحة لقد فكّرت بالترجمة إلى اللغة الروسية وتمنّيتُ ولكني لم أحاول... لأني أعرف كم ينقص المكتبة الروسية من كتب تلقي الضوء على مختلف جوانب الحياة في سورية وغيرها من البلدان العربية.. ولأني أعرف جيداً كم إنَّ الصورة عن بلدنا وعن شعوبنا بحاجة لتصحيح في ذهن المواطن الروسي وغيره بالطبع من شعوب البلدان الأخرى..
أما لماذا لم أحاول فلأني بكل بساطة لم أتفرّغ للترجمة حتى الآن بشكل كامل.. فلكي تتفرغ للترجمة يجب أن يكون لديك مصدر رزق تعيش منه أنت وعائلتك.. وهذا ما يجعلني حتى الآن أسير المهنة الأساسية.
وفي الختام أقول: لكي يكون المترجم ناجحاً في اختياره عليه أن يقدِّم عملاً يحقق مهمة رئيسية ألا وهي أنْ يجمعَ بين المتعة والفائدة! وهذه هي غايتي دوماً حين أبحث عن كتاب بقصد الترجمة. فإذا ما تحققت تلك الغاية أكون قد بلغتُ هدفي, وفي جميع الأحوال, إنَّ خيانةَ الترجمة أفضل بكثير من وفاء الجهل - كما يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيغ..
خضور: (جسر صداقة ووسيلة تعارف)
الكاتب والمترجم حسام خضور قال: في تقديري تلعب ثقافة المترجم وخبرته دوراً مهماً في اختيار الكتاب الذي يترجمه, أنا شخصياً (ربما كنت نسيج وحدي كاتب ومترجم وناشر) أرى أن ثمة علاقة بين المترجم والقارئ وصالة البيع والفائدة المعرفية والمتعة الفنية.
هناك حالتان مختلفتان ينبغي أن نميز بينهما, الأولى: عندما تطلب دار نشر معينة من مترجم أن يترجم كتاباً معيناً هي التي تحدده وتقدمه، في هذه الحالة، ليس من شأن المترجم أن يفكر بالبيع أو القارئ وربما بالفائدة المعرفية والمتعة الفنية، عندئذٍ يوافق على العمل أو لا يوافق، مثل أي مهني. أنا شخصياً، لا أترجم عملاً لا يقدم للقارئ فائدة معرفية أو متعة فنية.
الثاني: عندما يختار المترجم كتاباً ليترجمه، في هذه الحالة، غالباً ما يفكر المترجم بكل جوانب المسألة: القارئ وصالة البيع والفائدة المعرفية أو المتعة الفنية، والكتاب الجيد يحقق تلك الأشياء مجتمعة.
عندنا في سورية مشكلة من نوع آخر، غالباً ما يفتقر بعض المترجمين، الذين ليس لديهم صلات شخصية بأناس يعملون في الخارج، إلى الكتاب الأجنبي الحديث لترجمته. فالمترجم مهني مثل أي مهني آخر يحتاج إلى مادة أولية لعمله الكتاب.
الترجمة ليست خيانة, هي جسر صداقة ووسيلة تعارف وأداة لتعميم المعرفة الإنسانية وآلية تعاون بين الشعوب, إنها مفتاح كنوز فكر وأدب وثقافة الناس لكل الناس.
وأضاف خضور: الترجمة، مثل بقية المهن، تتطور وتتنوع مدارسها, ربما عدا الشعر يمكن ترجمة كل شيء بدقة عالية شكلاً ومضموناً مع أخذ الخصائص اللغوية الخاصة، في كل لغة، بالحسبان, قد نرى في المستقبل مترجمين يحافظون على إيقاع القصيدة الأصلي في لغة المصدر، ويجدون معادلاً مكافئاً لإيقاع القصيدة وبالتالي ينقلون القصيدة معنى وشكلاً.
أترجم الأعمال الأدبية، لكنني كنت أكثر ميلاً إلى الأبحاث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في السنوات الأخيرة لرؤيتي أن تلك الدراسات مفيدة للمهتمين بالشأن العام العربي.
الترجمة، من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، هم وطني وقومي وإنساني, هذه رسالة الترجمة, لكنها في الواقع تخضع للحاجات المادية والثقافية والمعرفية بشكل عام, أي إن من يحتاج إلى شيء يسعى إلى الحصول عليه، والترجمة هي الوسيلة. والآخر، الغرب، لا يرى أن لديه حاجة إلى الترجمة عن لغتنا إلا شيئاً من أدبنا قصة ورواية وشعراً. وبالتالي على أصحاب اللغة المنتجة أن يقدموا نتاجهم إلى القراء في اللغات الأخرى. وهذا هم المنتج (الفرد) وهم المجتمع (المؤسسات المختصة وزارة الثقافة، اتحاد الكتاب العرب، الجامعات، وزارة الخارجية والمغتربين، الجامعة العربية، دور النشر... وغيرها).
من خلال تجربتي كاتباً، أرى أن العلاقات الشخصية مع الوسط الثقافي الغربي يمكن أن تفتح نافذة فردية للكاتب، وقد ساعدتني علاقاتي الشخصية على ترجمة مجموعتي القصصية «عربة الذل» إلى الفرنسية. ومن تجربتي ناشراً، قامت داري «شرق وغرب» بالعمل على ترجمة منتخبات من القصة القصيرة السورية إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وربما الألمانية والروسية لاحقاً، تعطي صورة شاملة للقصة السورية فنية وجغرافية وإثنية وجنوسية, لكن الدار لم توفَّق في إنجاز هذا المشروع لعدم وجود شريك غربي أو تعاون مؤسسات قادرة على تسويق العمل, ثم تفاقمت الأزمة الوطنية وعطلت كل المشروعات الخاصة والعامة بسبب العقوبات الاقتصادية والمالية الجائرة التي فرضها الغرب على بلدنا.
وفي هذا الصدد أود أن أنوه بجهد اتحاد الكتاب العرب المتواضعة في تعريف العالم بنتاج أدبائنا من خلال إصداره مجلة الأدب العربي الفصلية باللغتين الإنكليزية والفرنسية، لكنها مهددة بالتوقف لأسباب مختلفة في مقدمتها عدم وجود قناة توزيع في الغرب لدورياتنا.