وفي ظل غياب يسار اجتماعي واقتصادي فعلي غرقت فرنسا بما يمكن تسميته ( سياسة الهوية ) التي تثني على التعددية الثقافية وتتفاعل بقوة ضد ( الطائفية ) , أي بمعنى إظهار أي خصوصية غير مرغوبة . ولكن بعض الخصوصيات العرقية كانت أقل قبولاً من غيرها , وهذا ينطبق على الخصوصية الإسلامية . ولذلك كان البعض يرى أن مناهضة الطائفية موجهة ضد طائفة معينة . وفي الوقت نفسه سارت القيادة الفرنسية خلف أولئك الذين يدعون إلى الحرب ضد دول في الشرق الأوسط مثل ليبيا وسورية . في وقت كانت تقدم ولاءها لإسرائيل .
وفي مقابل ذلك , كان ثمة مجتمع شكل مصدراً للقلق في جميع الأوقات . ففي الوقت الذي تراجعت فيه ممارسة الطقوس الدينية والالتزامات السياسية خلال العشرين عاماً المنصرمة تحول الهولوكست تدريجياً إلى نوع من دين الدولة . فالمدارس تحتفي فيه سنوياً , وأخذ يهيمن شيئاً فشيئاً في الوعي التاريخي على حساب جوانب أخرى , مثل عدد من مناهج في العلوم الإنسانية . ويكفل القانون الفرنسي المحرقة فقط من بين جميع الأحداث التاريخية في فرنسا . والقانون المدعو غيسو يحظر التشكيك بالمحرقة , وهذا في حد ذاته تدخلاً في حرية الرأي لا مثيل له . إضافة إلى منح بعض الجمعيات مثل LICRA ميزات سلطوية تتيح لها ملاحقة الأفراد قضائياً على قاعدة اتهامات ( التحريض على الكراهية العنصرية ) إلى جانب إمكانية الحصول على تعويضات . وعملياً هذه القوانين كانت من أجل ملاحقة ما دعوه « معاداة السامية « والمشككين بالمحرقة . والهدف الأكبر من تلك الملاحقات هي المضايقة والترهيب . علماً أن فرنسا تعد من الدول القليلة جداً التي تلاحق المشجعين على حركة ( مقاطعة , سحب استثمار , عقوبة ) ضد الاستيطان الإسرائيلي بالمثول أمام المحكمة بتهمة ( التحريض على الكراهية العنصرية )
تشتهر ( رابطة الدفاع اليهودية ) المحظورة في الولايات المتحدة وحتى في إسرائيل بنهبها المكتبات وضربها أفراداً منعزلين وحتى كبار سن . ضحايا هذه الرابطة لم تكن تثير احتجاجات لدى الرأي العام مماثلة للاحتجاجات عندما يكون يهودي ضحية هجوم غير مبرر . علاوة على ذلك يحضر السياسيين إلى حفلات العشاء السنوي الذي تقيمه منظمة CRIF بنفس حماس المسؤولين الأميركيين عند ذهابهم لعشاء منظمة ايباك , وليس من أجل تمويل حملاتهم الانتخابية بل من أجل إثبات طيب مشاعرهم .
والمعروف أن فرنسا تمتلك أكبر مجتمع يهودي في أوروبا الغربية . ومن ضمن جميع الأحزاب الفرنسية , يرتبط الحزب الاشتراكي أكثر من جميع الأحزاب بروابط تاريخية وثيقة مع إسرائيل . وخلال أعوام الخمسينات وعندما كانت فرنسا تحارب حركة التحرير الجزائرية , ساهمت فرنسا في مشروع المفاعل النووي الإسرائيلي بفضل روابط الحزبين الاشتراكيين في البلدين . وفي الوقت الحالي اليمين المتطرف هو من يحكم في تل أبيب . وخلال زيارته الودية , بين هولاند لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن انحراف السياسة الإسرائيلية نحو اليمين لم يوتر العلاقات بين البلدين التي تبدو أكثر قوة من أي وقت مضى .
ولا بد من الإشارة أن المجتمع اليهودي الفرنسي صغير مقارنة بالمهاجرين المسلمين من شمال أفريقيا ومن المستعمرات الفرنسية في أفريقيا . ومنذ عدة سنوات حذر المفكر باسكال بونيفاس قادة الحزب الاشتراكي أن الانحياز لصالح الجالية اليهودية يمكن أن يؤدي إلى مشاكل انتخابية . وأثار هذا التحذير ضجة كبرى كلفته حياته المهنية .
ومنذ بعض الوقت أشار المفكر الفرنسي نورمان فينكلشتين أن استغلال الهولوكوست كان من أجل أهداف تخلو من النبل , مثل ابتزاز الأموال من المصارف السويسرية . ولكن الوضع في فرنسا مختلف للغاية , حيث إن الإشارة دوماً إلى المحرقة هو نوع من توفير الحماية لإسرائيل من مشاعر الكراهية ضدها بسبب معاملتها السيئة للفلسطينيين . ولكن كان لادانة المحرقة تأثير سياسي آخر ليس له علاقة مباشرة مع مصير اليهود .
وجرى تفسير معسكر الاعتقال الشهير ( اوشفيتز ) على أنه رمز لكل ما يمكن أن تقود إليه القومية . واستخدام الاستشهاد دوماً بهذا المعتقل بغية توليد مشاعر « الاحساس بالذنب « في أوروبا , ولا سيما لدى الفرنسيين , نظراً لدور فرنسا الهامشي في هذه المسألة بسبب هزيمتها العسكرية واحتلال الألمان لأراضيها . وقد بدأ المفكر برنار هنري ليفي , الذي تزايد نفوذه السيىء في الآونة الأخيرة حياته المهنية بتبني مقولة أن ( الفاشية ) هي في صميم ( الايديولوجية الفرنسية ) . وقد برر عدد من الكتاب ومن الشخصيات العامة استخدام اوشيفيتز كأبرز حدث في التاريخ المعاصر إلى غياب السلطة القوية للاتحاد الأوروبي بصفته الكيان الذي حل محل الأمم الأوروبية « السيئة « . مع العلم أن انصهار الدول - الأمم ضمن بيروقراطية تكنوقراطية متحررة من أي تأثير عاطفي للمواطنين يمكن أن يقود إلى عدم التصويت بشكل صحيح . أنت تشعر بنفسك أنك فرنسي ؟ أو ألماني ؟ يجب عليك أن تشعر بعقدة الذنب بسبب اوشيفيتز .