والمدن عن بعضها، بل حوّلتها إلى ما يشبه الثآليل المحاصرة التي راهن الاحتلال على عزلها عن الدورة الدموية للبلاد، بحيث تجف بالتدريج وتذبل وتموت.
إن هذا ما سمّي مراراً كسب الوقت وليس شراءه، كما قال بعض الذين لا يرون من المشهد إلاّ السطح، أو من جبل الجليد إلاّ الجزء الناتئ منه.
والاحتلال يحصل على الوقت بالمجان، ونادراً ما يكلفه ذلك غير ما يمارسه من تضليل اعلامي وحجب الحقائق بما تبثه آلته الاعلامية من غبار ودخان، وما تبقى من الضفة الغربية الآن خارج السطو الاستيطاني هو نسيج متقطع، وكيان لايملك من العناصر الأساسية ما يكفي لنشوء دولة قابلة للحياة، ومنذ احتلال الضفة عام 1967 سعى الكيان الصهيوني بمختلف الوسائل إلى العمل على تكريس الاحتلال وفق منهجين، أحدهما من صميم الاستراتيجية الصهيونية، تمارسه الحركة لا«الدولة» والآخر، مجرد تكتيك يجري تسويقه عبر الميديا لذر الرماد في العيون، وما قيل عن لجوء حكومات الاستيطان إلى المراوغة في السلام، وافتعال العقبات كي لا يستكمل أي شرط من شروطه، لم يكن في حقيقته سوى التعبير الدقيق عن استراتيجية كسب الوقت وتحويل ما هو عابر إلى أمر واقع، ومن ثم مطالبة العالم الاعتراف بأن ما سلب بالاحتلال العسكري تحول إلى استحقاق سياسي.
صحيح أن جميع دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الحليف الأكبر والمزمن لـ«اسرائيل»، تصرح من جانبهاو أنها ترى في الاستيطان «عقبة في طريق السلام» وقد ترى فيه «عملاً استفزازياً» وقد يرفع بعضها من وتيرة هذه الرؤية، فيصرح بأنها«تقوض أسس حل الدولتين». ولا ينسى بعضها الآخر ربط معارضته «الناعمة» للاستيطان، بحرصه الشديد على مصلحة «اسرائيل» نفسها، على أساس أن هذا الاستيطان يعرض هذه المصلحة للخطر. فالمسألة في كل هذه المعاني، ليست في الحق الفلسطيني الثابت بأراضيه، وليست في الشرعية الدولية التي تحمي هذا الحق، وتؤكد حتمية تنفيذه، وإنما هي في المصلحة«الاسرائيلية» وحدها.
وما كان لنظرية النمو الطبيعي التي أضيفت إلى فلسفة الاستيطان أن تظهر على هذا النحو، وتجد من يصدقها لولا ما تم من كسب الوقت، فالمقصود بالنمو الطبيعي أو الديمغرافي للاستيطان هو تكاثر عدد المستوطنين عبر جيلين على الأقل، لهذا تقترن هذه النظرية بكسب الوقت، والسعي الدؤوب إلى مضاعفة هذا الكسب.
لقد كان عنصر الزمن ولايزال أساسياً في هذا الصراع، وثمة من وصفوا المشهد الراهن لهذا الصراع على أنه نمط غريب من الحوار الذي يدور بين طرفين، أحدهما يجلس داخل البيت المدجج بالسلاح، والمحروس من كل الجهات، والآخر يقف بجانب النافذة تحت سماء ممطرة وعاصفة، لهذا فإن من يتدفأ داخل البيت ليس في عجلة من أمره بخلاف من يقف في العراء، وقد يكون هذا الوصف الدراماتيكي لصراع فقد التكافؤ بعد حذف المقاومة، به قدر من المبالغة، لكنه لايخلو من الدلالات الواقعية والتي نراها ونسمعها يومياً.
أمّا المتوالية النفسية التي كانت في الصميم من البرنامج الصهيوني فهي احتلال المزيد من الأرض كي تنحصر المطالبة في ما استجد على حساب ما طويت ملفاته، وبهذا المقياس، فإن احتلال الضفة الغربية وغزة بالتحديد كان النموذج الأوضح لهذه المتوالية، بحيث كرس احتلال عام 1967 ما احتل عام 1948 وأصبح أعلى سقف للمطالبة بالحقوق هو العودة إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967.
وقد فهمت بعض الأطراف مسألة كسب الوقت على نحو بالغ السلبية، و توهمت أن القبول بالمتاح هو أفضل من العدم، لكن هذا الحاسوب الأخرق و الغبي تحول إلى سلاح آخر في يد الاحتلال.
ووفق هذه الحال، تستمر «اسرائيل» في حربها الاستيطانية، دون اكتراث من جانبها للعالم كله. ولماذا تكترث، طالما أنها لاتجد من يوقفها عن مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، أو يقف أمام جرافاتها ورافعاتها والبحار المتدفقة من خرسانتها المسلحة؟!
والمؤلم في هذا كله، أن ما يسمى بالمبادرة العربية للسلام التي مر عليها حوالي عشر سنوات، ما تزال قائمة، وأن حكاية «حل الدولتين» ما تزال على الطاولة التي هجرتها المفاوضات أو لم تهجرها سيان، وأن السلطة الفلسطينية ذاتها باقية على حديثها عن انشاء دولة فلسطين العتيدة.
وأين ستكون هذه الدولة؟ في الهواء فوق المستوطنات اليهودية التي أكلت وهرست أرض هذه الدولة؟ أم على الورق فحسب؟ ورق وهواء. غير أن الشعب الفلسطيني باق على هذه الأرض التي قال فيها شاعرها الكبير محمود درويش« على هذه الأرض ما يستحق الحياة». وعليها بالضرورة، ما يستحق الصمود والمقاومة.