ف (التكفير)، بحضور دلالته، يحمل نكهة التطرف الديني، والماضوية والمعاصرة تحمل روح العصر، وهي ذات تشابك مع مفهوم الحداثة، والحداثة لاتهتم بالدين أياً كان بل تترك ذلك للفرد نفسه أن يكون متديناً أو غير متدين وفيما تحمله دلالة العنوان من تضارب يبدو الأمر على درجة من الالتباس وخاصة في مرتسمه الجغراسياسي، نقول هذا لأن الموروثات والمحمولات التاريخية والثقافية في المنطقة التي تشمل الوطن العربي وإيران وتركيا وقوس الجمهوريات المحيطة بروسيا الاتحادية،.. هذه المساحة لأسباب بحت غاز نفطية هي المستهدفة من قبل عواصم الغرب لفتح ذلك الصندوق المليء بالكوارث،.. وهكذا في مثل هذه المساحة يمكن أن يتجاور التفكير والمعاصرة، ليس على امتداد الساحة السياسية فقط بل على امتداد ماله علاقة بحياتنا اليومية من استخدام أدوات العصر وآلاته إلى التفاعل مع مقولاته الفكرية الى سفر البعض باتجاه مقولات صفراء ضارية مدمرة وأعتقد أن التباس المعاصرة بعمقها الإيجابي والسلبي ليس أقل مثولا من التباس المسألة التكفيرية إلا من حيث الدرجة.
من كل معنى التكفير ثمة معنى ديني هو الأكثر حضوراً واستخداماً إذ ثمة من يكفر كل من عداه وفي هذا جنوح وتطرف ليس من جوهر الأديان لأن الأديان ذاتها كانت ذات آفاق متعددة وقبول هذه الآفاق هو الذي مهد لظهور الفرق والمذاهب فيها وهو فضاء إغناء وثراء حين ننظر إليه بإيجابية وعامل تفرقة وضعف واقتتال حين نجعل مما نراه أنه وحده الصحيح بمعنى أن التكفير ينبت في أرض التعصب والادعاء بامتلاك الحقيقة وأن الآخرين أبناء الضلال ومما يؤسف له أن الفرق والمذاهب في الوطن العربي، حيث وجدت، ظل بعضها يتعامل مع الآخر بحسب مقتضيات الحياة معايشة، ومعاملة، واحتفظ بينه وبين نفسه بشكل موروث بأنه في الجانب العقيدي هو صاحب الحق يأخذ هذه العقيدة إرثاً بالولادة لا بالاختيار ولا بالتمحيص وبذا تترسخ الموروثات أياً كانت وفي هذا من التخلف وتعطيل العقل الشيء الكثير.
لقد عانت الأمة العربية في تاريخها القديم من مسألة التكفير ما عانت ولم تكن طويلة تلك الفترة التي عرفت فيها الحضارة العربية في بغداد ذلك الطيف من ألوان الحوار فقد بدأ المعتزلة باضطهاد غيرهم وانقلبت الآية بموت المأمون فلوحقت المعتزلة على الرغم من وجود من كان يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب ولعل أحد أهم الأسباب في تغليب التعصب أن مفرزات تلك الفرق شكلت مادة لدعم السلطة الحاكمة أو لاستخدامها بعيداً عن منطلقاتها الفكرية المعرفية.
إن في التعصب المذهبي أو الديني أو الفئوي أياً كان حجماً يساويه من فقدان الروح الإنسانية وابتعاداً عن عائلة الله: الخلق ولقد حاول المستعمر اللعب بجميع الاوراق الموصلة للبعثرة أثناء تحكمه بالبلدان المستعمرة ومازال يركب الموجة وهذا يعني أن الشروخ لاتزال تحمل مرتسماتها الخاصة بل ربما فاجأنا أن من كنا نظنهم قدوة في تجاوز المربعات قد ارتدوا إلى المربعات العاتمة قبائلهم لا لإيمانهم بها بل لأن فيها ما يدعم وجهة نظره السياسية أو ما يراهن عليه في الانتصار وفي هذا كم كبير من الانتهاز وفقدان النصاعة والصدقية وقولنا هذا ينطبق على بلدان المشرق أكثر من انطباقه على بلاد المغرب بسبب وحدة المذهب أي بسبب فقدان تلك الثغرة ولكن هذا لأسباب سياسية لم يعصم بعض المغاربة من الهرولة إلى خيمة الإسلام السياسي الذي تسوق له أميركا وتدعمه وهذا اقتناص جديد يخدم القوى التكفيرية المستقية من مياه جيرانها الزاعمين أنهم يواكبون العصر بقدر ما يحافطون على أصالتهم هم!!
مما يهمنا التوقف عند المذهب الوهابي ليس بسبب ماينطوي من نزعة تكفيرية فقط بل بسبب أنه الحاضنة الفكرية وقاعدة انطلاق للهجمة التكفيرية المتمثلة في القاعدة وتفرعاتها المواكبة لها والمساندة ولن نتجاوز الإشارات السريعة والمفاصل الرئيسة فقد قام هذا المذهب على التشدد وسار فيه مؤسسه محمد بن عبد الوهاب على خطا تشدد ابن تيمية الذي لم يحتمل علماء زمنه في دمشق آراءه فسجنوه وخالفوه وقد تحالف عبد العزيز بن سعود مع هذا الشيخ ومازال العديد من الإجراءات على مستوى المملكة يقوم على روحية ذلك التحالف ولم ينس أهل الحجاز وغير الحجاز ما فعله أولئك المقاتلون الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الإخوان حتى لكأنه مقدر لهذا الإسم أن يحمل كل أوضار التعصب والظلامية.. لم ينسوا مااقترفه الاخوان من مذابح ومن سبي ومن ارتكابات باسم الدين ويعلم الناس أن بن لادن هو سعودي الجنسية وهابي المنابع الفكرية ولقد أجاد حكام السعودية استخدام هذا المذهب لأنهم يتحكمون بتوجيه تحركاته الداخلية والخارجية لصالح السلطة السعودية تنفيذاً لذلك الاتفاق بين آل سعود وآل الشيخ فاعتمدوا على وهبنة بعض المناطق البعيدة عنهم ذات القيمة الإستراتيجية في المحيط العام وقد عرفت بعض المناطق السورية بعض هذا الحراك منذ سبعينيات القرن الماضي ولاسيما في مناطق الريف هذا ما كان ظاهراً أما المخفي فيحتاج إلى رصد ومتابعة وتقص وهنا لابد من الإشارة إلى أن السعودية ظلت على الدوام ملجأ الهاربين من جماعة الاخوان المسلمين منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى الآن والدول لاتنجر إلا إلى ما يتفق مع ما يخدمها ومن أسف أن رؤى السعوديين هي رؤى تتقاطع مع الرؤية الأميركية بامتياز واستراتيجية أميركا كما نعرف هي الحفاظ على الكيان الإسرائيلي وحمايته ويعرف أهل اليمن والعراق والأردن الكثير عن نشاطات الوهبنة وعما يضخ من أموال لتمكين هذا المذهب التكفيري ولسنا نتهمه ظلماً فالتنظيمات التكفيرية بلا استثناء تصب في خليج الوهابية وثمة التصاق من جماعة الاخوان بأصحاب القرار الرسمي في السعودية وتلك علامة لا يمكن المرور بها عرضاً بل هي شاهد على أن الطرفين يذهبان في سبيل واحد.
ثمة مفارقة مقلقة ذات شعبتين:
الأولى هو أن الذين كانت تنظيراتهم الإسلامية مقبولة من الناحية النظرية وتتقاطع إيجابياً مع المعاصرة والحداثة الأمر الذي يخفف من توجس القوى الوطنية التقدمية العلمانية من الطغيان الديني المتطرف،.. هؤلاء وعلى رأسهم الغنوشي حين وجدوا أنفسهم قادرين على الحل والربط تكشفوا عن أناس أقرب إلى التشدد وستكشف الأيام القادمة المزيد من تلك الإفرازات وهم بذلك اسقطوا أوهام الرهان على ماكانوا يتاجرون به.
الثانية هي التحاق عدد من الذين كانوا محسوبين على اليسار بعامة ويصنفون في خانة التقدم ممن رضي أن يكون ملحقاً بتلك التنظيمات ذات البعد التكفيري وفي هذا ما يدل على أن الدوافع ليست فكرية وذلك لاستحالة التقاء من كان ينطلق من أفكار ماركسية مع أولئك الظلاميين إذاً لابد من أسباب ذاتية غير موضوعية وتغليب ما هو شخصي على ماهو عام ليس من صفات من يتصدون للتغيير وعبور المسافات الصعبة من المهم ألا ننسى أن فهم غارودي وأركون وفهم البوطي وحسون للإسلام يختلف كثيرا عن فهم سيد قطب والقرضاوي وهذا يضع بعض الذين كنا نقبل على أفكارهم من أسماء في خانة التغريب والتساؤل المر، بعد أن كانوا رموزاً قابلة لمواكبة المعاصرة والحداثة.
aaalnaem@gmail.com