وقد حقق هذا اللقاء تضافر جهود رسمية وخاصة, تمثلت الأولى بالسيد حمود الموسى مدير الثقافة في الرقة,وتمثلت الثانية بالدكتور احمد حافظ صديق الشاعر.
وتناوب على تقديم شاعرنا الكبير الروائي ابراهيم الخليل والشاعر عبد اللطيف خطاب والدكتور احمد حافظ, وقبل مباشرة الحوار ارتجل ادونيس كلمة وجدانية قال فيها: في لحظات يصل الفرح الى ذروة تكون حزنا, الحزن ايضاً يصل الى ذروة تكون فرحاً, شعوري مزيج من الفرح والحزن, الفرح لأنني ازور منطقة حلمت بزيارتها منذ نصف قرن عندما كتبت قصيدة صقر قريش, لقد رغبت بأن أرى المكان الذي عبر منه صقر قريش الفرات, هذا الحلم تحقق بعد نحو نصف قرن .حزني لأن ظروف حياتي الصعبة منعتني من رؤية هذا المكان بسرعة, واسمحوا لي ان اشكر صديقيّ الدكتور احمد حافظ والسيد حمود الموسى اللذين غلبا فرحي على حزني, اذ لاحقاني بطلب الزيارة الى الرقة.
الشعر يتجاوز نفسه لأنه في أزمة دائمة
وقد غمرني من قدمني في هذا اللقاء بما لا استحقه. اعتز بهذه اللحظة, وهذا اللقاء وقد جئت حتى اتعرف, وحتى اتعلم, وحتى استمع اليكم, لهذا اتمنى ان تعلموني بما تفيضون به.
بعد هذا تتالت الاسئلة من الجمهور فكانت في الاطار المعرفي الفكري الثقافي, ولأنه لا يمكن فك الارتباط بين الثقافة والدين والسياسة دائما الا بعملية قيصرية, فقد حضرا تلميحاً احياناً, ومباشرة احياناً اخرى...!
وان كان الشاعر يستفيض احياناً, إلا انه غالباً ما يجيب بخلاصات مركزة, تختزل كماً هائلاً من القول تتيحه التجربة الثرة,والممارسة الثقافية والشعرية الطويلة عمراً, العميقة معنى . وقد حاولنا ان ننقل اقوال الشاعر بحرفيتها, تارة , وبمعناها تارة اخرى تجنباً للتكرار الذي لا يمكن تجنبه في الارتجال! وبدأ الحوار بالسؤال التالي :
هل الشعر العربي في أزمة?
الشعر دائماً في أزمة, ومن اهم خصائصه ان يظل في ازمة لأسباب عديدة, والمظهر الاول من مظاهر الازمة انه يتعذر على اللغة ان تستنفد الاشياء التي تتحدث عنها, والشاعر يشعر دائما ان ما يريد ان يقوله, وما يريد ان يصل اليه شبه مستحيل, اذ كلما اكتشف شيئاً تجلى له ان هناك اشياء كثيرة عليه ان يكتشفها.
والمظهر الثاني من مظاهر الازمة انه عندما يقيس الشاعر نفسه في لغة ما ( العربية) بين ما انجزه اسلافه من جهة, وبما ينجزه الآخرون من جهة ثانية يكتشف ايضا ان عليه ان يعمل ويجتهد كثيرا للوصول الى المستويات العليا لبعض اسلافه ولما يصل اليه المبدعون الآخرون في العالم .
من مزايا الشعر ان يستمر في ازمة, وبالتالي يقلق الشاعر وهذا القلق يعني رغبته في ان يتجاوز نفسه باستمرار.
ومن مظاهر الازمة الثانوية: علاقة الشعر بالقارئ, يقال ان الشعر انحسر بشكل او بآخر, وهذا حقيقي فبأي معيار يقاس هذا الانحسار التاريخي, أيعود ذلك كما يقولون الى ان زمن اليوم هو زمن فنون اخرى مثل الرواية, والفن التشكيلي, والغناء, هناك شيء من هذا,لكنني أظن أن وضع الشعر العربي جزء من وضع الشعر في العالم كله, هذا العالم الذي تولد فيه تقنيات جديدة, ومعارف جديدة, ونحن على ابواب انقلاب معرفي في العالم, ومن هنا فان انتشار الشعر افقيا قل, وانتشاره عموديا ازداد, فما يخسره افقياً يربحه عمودياً, ومن مظاهر الربح العمودي انه يكاد يتوحد الشعر والعلم, وخاصة ان العلوم الفضائية-الفلك هي حدوس شعرية بالأساس, وبهذا المعنى لا يمكن ان يزول الشعر ولأن الشعر مرتبط ارتباطاً كينونياً بالانسان مثل الحب والموت, وما دام الحب والموت موجوين فلا يمكن ان ينحسر الشعر.
السؤال الثاني: يصنف بعض النقاد القصيدة الحديثة على انها ادونيسية او درويشية, فما قولك?
هذا سؤالي الأول, اما الثاني فإنه يتعلق بما قلته في لقاء لك مع احدى الفضائيات, حيث قلت انك ضد كل الحجب, ثم امتدحت حجاب محاورتك قائلاً: ان الحجاب قد يضفي شيئاً من الجمالية..!
يطرح سؤالك الاول على القراء وليس على ادونيس او درويش, ومن جهتي, ان كان لا بد من الاجابة, فانا لا اتمنى ان يكون الشعر ادونيسيا,ولا ارغب ان يقلدني احد, او يتأثر بي لأن طبيعة تجربتي تحرضهم على ان يبتكروا طرقهم الشعرية الخاصة بهم, والا يقلدوا احدا...
أتمنى ان يكون الحافز الاساسي للشاعر هو الفرادة التي تميزه تمييزا كاملا, وان ينعتق عن اي مرجعية الا مرجعية تجربته الخاصة,ورؤيته الخاصة, وآمل من جميع الشعراء ان يسلكوا هذا المسلك.
اما سؤالك الثاني او تعليقك على ما قلته في الفضائية فانه يشي باحتجاجك على تناقض تراه في كلامي.. انا ارفض الحجاب ان وضع على العفن, ولا ارفضه تزيينيا, فغطاء الرأس موجود حتى عند جماعات غير مسلمة, وما قلته في الفضائية كان مجرد ملاحظة استطرادية, اذ رأيت نقاط الجمال والجاذبية برزت مع الحجاب , او بفضله, فمركز الجاذبية في الوجه هو الشفتان والعينان, ووضع الحجاب ابرز هذه الفتنة فقلت ما قلت .
السؤال الثالث كيف تنظر الى واقع العقل العربي بعد مضي قرن على النهضة?
ما تطرحه هو مشكلة عامة ومطروحة يوميا وحياتيا, وليس نظريا,مع احترامي لكل المفكرين في عصر النهضة فأنا لا اسميه عصر النهضة, بل عصر الانهيار, والسبب هو ان الاسئلة الأساسية التي كان يجب ان تطرح عن وضعنا السياسي والاجتماعي والفكري لم تطرح حتى الآن, وان طرحت فقد طرحت مداورة, وليس مباشرة, واستطيع ان اقدم امثلة عديدة على ذلك, من ذلك ان الحقيقة اعطيت لنا في الوحي للمرة الاولى والاخيرة,وتربيتنا الثقافية تقوم على ذلك, ولم تطرح هذه القضية على المستوى المعرفي لا في عصر النهضة ولا الآن!
في مجلة مواقف كنا نحاول ان نصدر اعداداً خاصة حول المشكلات الاساسية, فاردنا ان نصدر عدداً خاصاً عن مشكلات المرأة, فأصدرنا عددين كانا الاخيرين لأنه تعذر علينا ان نناقش قانونياً ما قيل في المرأة فكان هذا سبباً لايقاف المجلة, لأن المجلة كانت تطمح الى إعادة النظر الجذرية في المشكلات التي نعيشها , وما دمنا غير قادرين على ذلك, فقد فضلنا ان تتوقف المجلة .
وانا لا اقتصر في نقدي على السلطة التي هي ذروة التخلف, اذ لا انسى ان في المجتمع نفسه تيارات واشخاصاً هم مثل السلطة في التخلف .. والامثلة كثيرة.
السؤال : علاقة ادونيس بالمكان علاقة اشكالية هل يمكن التحدث عنها?
من الصعب ان يتحدث الانسان عن نفسه, وانا ممن يترددون في الحديث عن شعرهم ورؤيتهم الشعرية, لأن الشاعر باحث دائماً, وليس لديه يقينيات يستند اليها . انها توهمات , وهو لذلك يسير في نوع من الظلام , ليس لديه حقائق يستند اليها ليشرح علاقته بالزمان والمكان.
الآن بعد مضي زمن احاول ان انفصل عن شعري, وانظر اليه كقارئ, فأرى ان علاقتي بالمكان والزمان والموت كانت طاغية, ومع انه ليس لي طفولة فقد كنت اعمل وانا طفل, الا انني حين اتذكر تلك الطفولة الآن, والطفولة مكان, ادرك ان ما أيقظ رغبتي الدفينة بالمكان هي طفولتي . هذا اساس اول, اما الاساس الثاني, فهو سفري في العالم, وبهذا السفر اقارن بين البلاد التي انتمي اليها والبلدان التي ازورها وهذا عامل غير شعوري في استكشاف المكان. التقسيم بين الزمان والمكان صعب, ولا فصل بينهما .
عندي اليوم رغبة عميقة في استقصاء المكان في البلد الذي ولدت فيه تكاد تعادل رغبتي في استقصاء الزمان.
السؤال: قلت سابقا ان اللغة العربية هي وطني, ما هو احساسك بالمنفى?
الانسان دائما في ازمة, مفهوم الوطن مفهوم ملتبس لأنه محجوب بالسياسة, بالسلطة, بقضايا متعددة, والوطن ليس مجرد نظام, او دولة او جغرافيا, انه الانسان وحرياته وحقوقه, وحلمي الدائم ان يكون تطابقاً بين انسانية الانسان والمكان الذي اسمه الوطن. وما دام هذا التطابق غير قائم فانا اشعر انني في منفى وانا في وطني.
اضافة على ذلك وبالمعنى العميق اللغة ذاتها هي الوحيدة بالنسبة للشاعر التي تخلق التطابق بين ما يحلم به وما يعيشه عملياً, لذلك اشعر ان وطني الحقيقي في اللغة ولو خياليا..اشعر ان وطني هو اللغة التي اكتب بها .
السؤال : الى اي حد تجربتك الشعرية تسامت رؤيتك الشعرية?
يلزمني هذا السؤال بالحديث عن نفسي, اقول باخلاص بعد تجربة خمسين سنة في الكتابة الشعرية انني لم افعل شيئاً, ولو كنت قادراً على ان امحو ثلثي شعري لما ترددت على الاطلاق, فما احلم به لم انجز منه الا القليل القليل.
السؤال: تعيش بيروت اليوم حالة من الحراك على كل المستويات, وذلك يشبه الذي حدث عام 1982 حيث الحصار والتغيرات الكبرى ما رأيك في هذا ?
-لا ا ظن ان هناك تغيرات كبرى على المستوى العميق, لبنان خلقته الطائفية, والحراك في لبنان ليس حراكاً اجتماعياً وفكرياً, انه حراك على المحاصصة الطائفية, وليس الحراك الاجتماعي الفاعل, لأن العناصر الأساسية فيه لم تتغير اصلا, وهو لا يتغير كبنية اجتماعية .
السؤال : ما تقول في الحوار مع الآخر?
-الحوار مع الذات ليس امراً سهلاً, الصدق مع الذات نوع من الموت في مجتمع مثل مجتمعنا الفرد فيه ليس لديه حقوق وحريات وغير قادر ان يفصح عن نفسه, هل استطيع ان افصح عن مشكلاتي بشكل صادق? وان فعلت هل املك ان انشر هذا الافصاح او الحوار مع نفسي في كتاب او مجلة?
اذا كان الانسان غير قادر على ان يحاور نفسه فكيف يستطيع ان يحاور الآخر?!
كل فرد منا يعيش بشخصية متوهمة مركبة, تصوغها العلاقات الاجتماعية والثقافية القائمة, عندما يحاول كسرها ينكسر معها, وذلك لسبب اساسي مفاده: اننا لم نستطع اقامة دولة مدنية. عندما يعيش الفرد منا في مجتمع آخر نراه يتفوق في كل المجالات, فالطرق امامه مفتوحة لتحقيق عبقريته لكن هذا الفرد نفسه في المجتمع العربي يفشل اذ يواجه بدوامة من المشكلات تحول بينه وبين ممارسة عبقريته.
ومن هنا نرى ان الفرد العربي الذي يعيش خارج مجتمعه قادر على محاورة الآخر..
اننا نجد دائما مسوغات ومبررات لتأخير او تأجيل مجابهة الاشياء الحقيقية , باسم السياسة تارة, وباسم الدين تارة اخرى, وباسم الصراع مع الاجنبي تارة ثالثة..وهكذا يكون حوارنا كشعب مع العالم حواراً ناقصاً, واوضاعنا تجعلنا في مستوى ادنى من الآخرين في الحوار, فالحوار المسيحي الاسلامي أكذوبة كبرى يفيد سياسياً, ولكن جوهرياً لا يمكن الحوار بين نفيين , انه نوع من التمثيل.
السؤال: الأنا عند أدونيس موجودة في الشعر, وقد تكون مسيطرة وسيدة, فلماذا يهرب ادونيس من الأنا?
-هناك انا فردية متبجحة, وهناك انا معرفية, فسقراط يقول: ( اعرف نفسك ) وأعمق ما في الانسان معرفته لنفسه. الحديث عن الأنا خرافي.. فحتى نحاور الآخر يجب ان يكون لدينا شيء نقوله للآخر.. المجتمع العربي اذا خلا من اثر الغرب فيه ماذا يبقى لديه? ليس لدينا القدرة على محاورة للآخر . الا اذا كان لدينا شيء مختلف عنه .
السؤال : حينما تكتب الشعر كيف تستطيع ان تتخلى عن ادونيس الناقد?
-هذا صعب, ولذلك أحاول أن اكتب وأنا نائم . هناك مقولة عظيمة تنسب للنبي (ص):
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا, وانا عندما أكتب الشعر اكون ميتاً.
السؤال : رشحت لعدة جوائز, ومنها نوبل للآداب..ما هو منظورك للجوائز?
-الجوائز تعبر عن تقدير المجتمع للمبدعين فيه , فالمجتمع لا تخلقه السياسة ولا الاقتصاد ولا الدين انما يخلقه الابداع وانا أخجل ان مجتمعاً مثل سورية ليست فيه اية جائزة حقيقية للابداع والجوائز في النهاية تعكس مدى اهتمام المجتمع بالمبدعين .
والشاعر والمبدع يجب ألا يهتم بالجوائز , بل بشعره وبعمق هذا الشعر.
السؤال : انت مخرب للشعر العربي, هكذا قيل عنك فما تقول?
أنا مخرب واعتز بذلك , اعطني شيئاً لا يحتاج الى تخريب في مجتمعنا العربي, وارجو ان يكون تخريبي جذرياً.
السؤال: هل المتحول الممثل بالحداثة هو انقلاب على الثابت الممثل بالموروث?
ليس الامر كما تظن , ولعلك لم تقرأ الكتاب. الثابت والمتحول كانا مجرد مصطلح لدراسة حركة الثقافة العربية في القرون الثلاثة الاولى.. فالثابت لم يكن ثابتا بشكل مطلق وكذلك المتحول والمهم بتقديري ان كل ما كان مهمشاً ومنبوذاً ويعد كفراًًً أو إلحاداً أبرزته لأنه ينظر اليه خارج سياق التراث العربي .
تاريخنا كتب كتاريخ سلطة والشعب غير موجود فيه, ما لدينا ليس تاريخ شعوب, تاريخ ابداع.. وقد حاولت بالمتحول ابراز الاشياء المهمشة واعادة ضمها الى التراث.
الشعر الحديث الأول بدأ بأبي تمام وابي نواس, وليس منا من وصل الى ما وصل اليه المعري, فالمعري وحده جابه المشكلة الدينية كمشكلة مؤسسة وليس كمعتقد فردي..
يجب ان يعاد النظر في مفهوم الحداثة, والشعر العربي نبضنا الحقيقي, وعلينا ان نفك الحصار عن اللغة العربية وموسيقاها لأنها اكبر من ان تحدها البحور الستة عشرة.. لم نعمل لأي انقلاب ضد امرئ القيس من يستطيع فعل ذلك ? لا احد .. الشعر وحده يعطي للشعب هويته, نستطيع تفسير التاريخ العربي بالشعر, ولكن التاريخ لا يمكنه تفسير الشعر ..
السؤال: اضافة للريادة كان ادونيس جسرا للشعرية بين العربية والفرنسية خاصة, اين ترى نقاط التلاقي في القمم الشعرية العربية والقمم التي ترجمتها?
-من الصعب المقارنة بين شاعرين او رسامين او غيرهما, لكل مبدع عالمه الخاص, المقارنات يقوم بها اساتذة الجامعة, ولست من القائلين بالأدب المقارن.. لا سبيل للمقارنة مثلا بين المتنبي والمعري فلكل منهم رؤيته وعالمه.. هناك حساسية عربية ومناخ عربي,كونت خصوصية قائمة اثرت على الشعر الغربي اكثر مما اثر الشعر الغربي علينا .
السؤال: اسماء تتوارد:المتنبي, مهيار, اسماعيل , صقر قريش... كلها تعتمد على المعطيات العربية .. هل هو المنفى والابحار ام شيء آخر?
-جلجامش اقدم قصيدة في العالم طرحت مشكلة المنافي والبحث عن سر العالم والسعي للقبض على هذا السر.
انا اعتقد ان الانسان يظل منفياً حتى عندما يعود الى وطنه, فالوطن فينا منفى آخر, والآخر منفى ابعد, الفرق بالدرجة وليس بالنوع.