تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الصرح العمراني - التعليمي الأكبر في تاريخ حلب..إلــى أيـــن.. هـــــل تصبـــــح دار الـمأمــون داراً للثقـافـــة..؟

ثقافة
الخميس 2-7-2009م
الدكتور عمر الدقاق

شهدت مدينة حلب في أواخر القرن التاسع عشر نهضة عمرانية غير مسبوقة حتى غدت المدينة الثالثة بل الثانية بعد استنابول عاصمة الدولة العثمانية، وذلك بفضل ازدهار العديد من منشآتها مثل الخانات والأسواق والحمامات والثكنات والمشافي والمدارس وسوى ذلك من الصروح.

أما المكتب السلطاني أو مدرسة التجهيز التي عرفت فيما بعد باسم ثانوية المأمون فقد تم بناؤها فوق أرض رحيبة في حي الجميلية سنة 1892 وفق طراز معماري متميز ليس له مثيل إلا في العاصمة العثمانية وبالتحديد مدرسة (غالاطاسراي)، كما أعقب هذا الصرح العمراني بناء صرح حضاري آخر لا مثيل له في سائر الولايات العربية أيام العثمانيين سنة 1898 وهو برج الساعة الشاهق الماثل حتى اليوم والمنتصب في وسط المدينة وهو المعروف بساعة باب الفرج.‏

والحديث عن ثانوية التجهيز الأولى بحلب عبر تاريخنا الحديث وما أدته من إنجازات في مجال التربية والتعليم وفي حركات النضال الوطني على مر السنين وما قدمته من الشهداء الأبرار وما أنجبته من الأجيال التي صنعت نهضة سورية العربية... كل ذلك أمر يصعب تناوله ضمن الحيز المتاح الآن، ويكفي أن نقول: إذا كانت قلعة حلب هي رمز العظمة والقوة عبر العصور، فإن ثانوية المأمون هي منارة المعرفة ومصنع الرجال، إنها تاريخ حافل يتجسد في مبنى عريق.‏

إن مدرسة التجهيز أو ثانوية المأمون بحلب التي تربينا في أحضانها وذقنا في رحابها الأيام الحلوة والأوقات الصعبة عبر تاريخنا المعاصر تستحق منا اليوم التفاتة خاصة ومتأنية.‏

شاء القدر ولحسن الحظ أن يتطوع الرجل النبيل الأخ عبد العزيز السخني بمبلغ طائل لتحديث هذا الصرح العلمي العريق وترميمه بقصد إعادته إلى ما كان عليه على أفضل حال معتمداً على فريق عمل متخصص ناشط ودؤوب، جزاه الله والذين معه كل خير، حقاً إن حلب قبل كل شيء برجالها.‏

الآن وأكثر من أي وقت مضى يتساءل الكثيرون ولا سيما المثقفون والمستنيرون من أهل حلب، وبقلق متزايد عن مستقبل ثانوية المأمون، بعد أن اقترب موعد التسليم والاستلام وحانت أوكادت لحظة القرار والحسم.‏

كيف سيكون عليه حال (المأمون)؟ ما مصيرها؟ وهل يقدر لها أن تعود إلينا وتبقى في حياتنا وحياة أبنائنا وأحفادنا منشأة حضارية متجددة متألقة، ثم هل تبعث من جديد مدرسة رائدة يحيي فيها تلاميذها علم البلاد المفدى في كل صباح بصوت مجلجل هادر وأناشيد وطنية حماسية لاهبة، ومن ثم تتكون لدى لدى طليعة الجيل حصيلة علمية وتربوية واجتماعية مباركة وباختصار أيضاً، هل تعود التجهيز العزيزة لتكرر نفسها على مقاعد الدرس، أما أنها جديرة بأن تغدو منشأة حضارة وثقافية متطورة تواكب العصر وتلبي طموحات المدينة الصابرة وذلك على صعيد المنجزات الاجتماعية والثقافية والفنية المعاصرة.‏

في ظاهر الأمر وللوهلة الأولى قد يظن أن عودة المأمون إلى سابق عهدها أي أن تستمر مدرسة كما كانت في سالف أيامها هو أمر طبيعي ومنطقي.. ولكن يمكن أن يقال في الوقت نفسه، هل هذا هو الإجراء الأفضل والقرار الأمثل.‏

تجاه هذا التوجه وفي مقابل هذا الرأي أقول في مقابل ذلك ومن خلال رؤية أخرى، ومن منطلق خبرتي المديدة والمتنوعة في الدراسة والتدريس والإدارة في حقل التربية والتعليم وضمن المدارس الثانوية وفي الجامعة، بوسعي أن أقول بعد ملاحظات ومشاهدات وطول معاناة: إن الأحوال الراهنة والأوضاع الحاضرة باتت اليوم مختلفة كثيراً عما كانت عليه مثلاً منذ نصف قرن من الزمان على الأقل، إذ طرأ قدر ملموس من التراجع والخلل على حياتنا الاجتماعية والخلقية والتربوية والنفسية... إلخ.‏

وما يبعث على الأسف والأسى أن نجد من خلال واقنا الحالي ومجتمعنا الراهن أن شريحة واسعة من شبابنا ومراهقينا وجيلنا الفتي لم تعد تتحلى بكثير من القيم الأصيلة المتوارثة ومن آداب السلوك المتحضر كما لم تعد تحتفظ بروح الانضباط والالتزام بالنظام المنشود، ومن ثم الغيرة المعهودة على المنشآت العامة والمؤسسات الوطنية.‏

قد يبدو في هذا القول قدر من الغلو ونزوع إلى التشاؤم وأن ذلك رؤية قاتمة.. ولكن الصراحة قد لا تعجب بعض الناس فيتجاهلون ما حولهم ويكابرون في مواجهة الحقائق، إن نظرة إلى شوارعنا الجديدة وأرصفتنا المبلطة تدل بوضوح على أنه بات متعذراً في هذه الأيام على الرغم من جهود الدولة ودوائر البلدية أن تنمو غرسة، أو تقوم شجرة بسبب قلة من العابثين والمستهترين الذين يرتكبون الأذى دون رادع من ضمير ولا وازع إنساني أو ديني، وهذه الظاهرة تنسحب أيضاً على المدارس الجديدة التي تدأب الدولة دون هوادة على بنائها في أرجاء الوطن وأقصى البلدان، وكثيراً ما تتحطم نوافذ وتتهشم مقاعد وتتشوه جدران، وقد يتم كل ذلك أو بعضه قبل أن تتم عملية التسلم والتسليم بين متعهد البناء والدولة، بل إن الصورة تبدو أكثر قتامة حين يصل الأذى إلى مدى أبعد وأشد، فكلية الآداب في مبناها الجديد الرحيب ضمن الحرم الجامعي المتميز في مدينة حلب تعد مثالاً صارخاً على ظاهرة العبث والأذى بل التشويه والتخريب،، وذلك بسبب فئة ضالة مستهترة ومسلك قلة مفسدة تعبث بالأثاث وبالمقاعد ومحتويات المكتبة، ومقابض الأبواب ثم تشويه الجدران والأروقة بكل ما هو سيىء ومبتذل، والأسوأ من ذلك إفساد المغاسل ونزع المرايا أو تحطيم بعضها واقتلاع بعض الحنفيات أو تركها تتدفق على الدوام بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، مع أن هذه المنشأة الجامعية دار حقيقية لتكوين المواطن وإعداده للمستقبل، فإذا هو كذي جرب يلتذ بالحك جلده.. حتى لا يكاد أحد يصدق أن هذا التصرف من فعل أبنائنا ضمن مبنى جديد لم يمض على إنشائه سوى ثلاث سنوات.‏

وإذا عدنا إلى (المأمون) بعد هذا الاستطراد نرى أن ما ذكرناه هو في صميم الموضوع، فقد نسمع آراء بعض الناس الذين يعترفون بصحة ما ذكرناه تجاه تلك السلبيات، ومع ذلك نراهم مقتنعين بأن هذا الخلل يمكن تلافيه مثلاً في مدرسة المأمون مستقبلاً كان يتم اختيار مدير قدير حازم ومتفان، ومجلس معلمين مخلصين غيورين على سلامة المدرسة وعلى عملية التربية والتعليم. كلها نيات حسنة تكتفي بإجراءات وقتية لا تلبث أن تبقى زمناً يطول أو يقصر، وبعدئذ تفتر العزائم وتتراخى الهمم وتخمد جذوة الحماسة، ثم تعود الأحوال إلى سابق عهدها خاضعة للمناخ العام المعهود، وهذا بعينه هو الخطر القادم الذي نخشاه نتيجة ضعف الشعور بالمسؤولية لدى كثير من المواطنين، وعنذئذ تعود ثانوية المأمون أيضاً عاجلاً أو آجلاً واحدة كسواها ضمن عشرات بل مئات من المدارس، وشأنها في ذلك كشأن الأواني المستطرقة في غمار الواقع مهما حاولنا صونها ورفع شأنها.‏

وإني أرى وترى معي شريحة واسعة من العاملين في حقل التعليم والثقافة والفنون أن الموضوع يحتاج إلى قدر واف من الدراسة والتروي بهدف تكوين رؤية مستقبلية واضحة وسديدة، لأن التسرع في اتخاذ قرار غير مدروس ولا ناضج قد يورثنا الندم، ومن هو الذي يستطيع أن يضمن سلامة هذا الصرح والحفاظ عليه بعد مضي الأيام القادمة، ويبدو لنا أن الاستبشار بالمستقبل وفق كل هذه المعطيات بات صعب المنال.‏

والرأي الآن لدى النخبة الوفية من أبناء حلب أن يغدو مبنى المأمون في آن واحد مجمعاً ثقافياً وفنياً، ومتحفاً تاريخياً وتراثياً، وعندئذ يتحقق الأمل في أن تصبح هذه المنشأة العلمية الحضارية واحدة من أبرز معالم مدينتنا العريقة، وذلك بأن تؤدي رسالتها المنشودة لكن بطرق جديدة ووسائل حديثة، وفقاً لمتطلبات العصر ومستجداته.‏

والمقترح مثلاً أن تكون المأمون داراً ثقافية تراثية وعلمية وفنية، يمكن أن يطلق عليها الاسم الأصلي السابق نفسه معدلاً هو:‏

(دار المأمون للثقافة والفنون)‏

وذلك على غرار (دار الحكمة) في بغداد قديماً، وأيضاً على غرار (مكتب عنبر) بدمشق حديثاً الذي كان أيضاً مدرسة رائدة ثم أصبح متحفاً ومركزاً للتراث والثقافة.‏

قاعات المأمون المقترحة ومهامها:‏

1- قاعة تضم كل الكتب والدراسات والمؤلفات التي تناولت حلب عبر العصور بأقلام المؤرخين العرب والمستشرقين والرحالة الأجانب بحيث تتشكل (المكتبة الحلبية المتخصصة)..‏

2- قاعة تضم نماذج من المصاحف القديمة والمخطوطات الدينية والتراثية التي أنجزها النابهون من أبناء حلب، مع نماذج من أعمال الخطاطين المبدعين في أنماط الخط العربي (كوفي - ثلث - ديواني - فارسي - رقعة..) فضلاً عن المحابر والأقلام والأحبار.‏

3- قاعة تضم أدوات الموسيقا والطرب السائدة في حلب، مثل العود - القانون - القيثارة - الربابة - الجنبش - الدربكة - الطارة - الناي - الدف - الطنبور - المجوز).‏

4- قاعة تضم صور الأعلام من الرواد الموسيقيين والمنشدين والمؤلفين والملحنين في مجال فن الموشحات والقدود والمواويل من مثل: الشيخ علي الدرويش - عمر البطش - بكري كردي - النصار - أسعد سالم - صبري مدلل.‏

5- قاعة تضم أبرز لوحات الفنانين التشكيليين والرسامين الذين أنجبتهم حلب، كما تضم صور الذين أبدعوها (مثل لؤي كيالي- غالب سالم- وهبي الحريري- فاتح المدرس- رولان خوري- حزقيال طوروس- الفريد بخاش- وحيد مغاربة- سعد يكن..)‏

6- قاعة تضم نماذج من فن النحت من نصب وتماثيل ومنحوتات جبصية وحجرية وخشبية ومعدنية من أعمال فتحي محمد قباوة، وحيد استامبولي، وسامي برهان وعبد الرحمن موقت.‏

7- قاعة تضم صوراً للأعلام الذين أنجبتهم حلب في نهضتها الحديثة من مؤلفين وشعراء وصحفيين وأطباء وحقوقيين مثل: (آل المراش، عبد الله، فتح الله، مارينانا، الكواكبي، رزق الله حسون- جبرائيل رباط- جرمانوس فرحات- الغزي- الطباخ- الأسدي- قوشقجي- فتح الله صقال- أبو ريشة والهنداوي- والترمانيني- والكاتب- الكيالي- الكوراني- شكيب الجابري- وعبد الله يوركي).‏

8- قاعة الصحافة الحلبية، وتضم نماذج من الصحف والمجلات الرائدة ذات الأهمية التاريخية وهي وثائق نادرة (ولكنها محفوظة لدى نخبة من الهواة) مثل الجرائد.. فرات- الشهباء- اعتدال، ثم التقدم- النهضة- الميثاق- الإصلاح- الوقت- الأهالي- الجهاد- الأنباء- الحوادث- التربية- برق الشمال- أريويلك- البريد السوري- الاتحاد- الشباب- النذير... ثم المجلات الحلبية مثل: الحديث- الجامعة الإسلامية- الجريدة الحقوقية- المرأة العربية- الضاد- الكلمة- السنابل... وفي الوقت نفسه تضم قاعة الصحافة صوراً وتعريفات لأّم المحررين مثل رزق الله حسون جد الصحفيين العرب، ثم الكواكبي- كنيدر- الفاروقي- نديمة المنقاري- الشعباني- عبد العال- الكحال- البصمجي- أبو قوس- الكاملي- كورنلي- كالوس- وهبي- طلس- قنبر- فنصة.‏

9- قاعة تضم مشاهد مصورة لمعالم حلب العمرانية التراثية والتاريخية بدءاً من القلعة فالمساجد والكنائس والأسواق والحمامات والقساطل..‏

10- قاعة تضم وسائل النقل السالفة في حلب: العربة (الحنتور)- الطنبر- حافلة الترام.‏

11- قاعة تضم نماذج من الملابس التراثية والأزياء الشعبية لأّهل حلب رجالها ونسائها مثل: (العمائم والشالات والصايات والسراويل والعباءات والصرامي..)‏

12- قاعة تضم صور الأعلام والنابهين الحلبيين في مجال النضال والإدارة والحكم مثل (هنانو وسعد الله ومجد الدين الجابري.. وناظم القدسي..)‏

13- قاعة الشهداء وتضم صور أبناء حلب الذين سقطوا في سبيل الوطن وحريته، ولاسيما طلاب المأمون الشهداء: (القدسي وحاووط..) والذين أصيبوا منهم ومن أساتذتهم (شكيب الجابري، وهبي الحريري، ثم مصطفى النعساني..)‏

وبعد، لا ريب في أن منشأة المأمون بعد أن وقفت اليوم على قدميها واستعادت شبابها، تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل ومال وفير لاستكمال وجودها وتحقيق تألقها. وذلك بدراسة ما يلزم لمشروع التدفئة أولاً، ثم الطلاء ثانياً وبعد ذلك تأثيث القاعات والغرف بالخزائن والمناضد، ودعمها بالمخطوطات والكتب واللوحات والصور... فالطريق ما زال طويلاً أمام استكمال المبنى من الداخل.‏

وما من شك أن أهل حلب بمؤسساتهم ونقاباتهم وغرفهم التجارية والزراعية والصناعية وبيوتاتهم التجارية وسائر رجال الأعمال.. مستعدون كعهدهم على الدوام لدعم هذا المشروع في مرحلته الثانية ومده بالمال اللازم أو مساندته بالتأثيث المطلوب، دون مطالبة الدولة بمزيد من الأعباء وتجنباً للتعقيدات البيروقراطية.‏

والمدينة تنتظر مبادرة رسمية من جهة إدارية حكومية عالية تدعو فيها وجوه المدينة إلى حفل مشهود بهدف تسلم المبنى وتدشينه مبدئياً، وخلال ذلك الحفل يعلن على الملأ تشكيل لجنة رفيعة ذات خبرة ومكانة، كما تعطى إشارة البدء بحملة الاكتتاب والتبرعات العينية والمالية حسب الأصول وبإشراف السيد المحافظ رئيس اللجنة.‏

والأمل كبير في أن يتحقق حلم الملايين الخمسة من سكان هذا البلد العريق الطيب وأن تسعد مدينتهم الأثيرة بوجود منشأة دار المأمون منارة ساطعة للثقافة والفنون ومتحفاً متميزاً للتراث والإبداع، إلى جانب عظمة قلعتنا الشامخة الرابضة مفخرة حلب المحروسة. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم. والله الموفق.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية