ولكن في الأيام القديمة، بحسب ماكان يروى لنا، كان التلميذ يرسب في كل صف عدداً من السنوات، دون أن يسأله أحد: ثلث الثلاثة كم؟.. وبعض التلاميذ يستمرون في الرسوب حتى يصبح الواحد منهم في سن العسكرية، ووقتها تأتي دورية الشرطة إلى المدرسة وتبلغه ضرورة مراجعة شعبة التجنيد لكي يتم سوقه للخدمة الإلزامية، ليرتاح المقعد المسكين من ثقل بدنه، مرة واحدة، وبدون رجعة.
ضمن هذا المنطلق سنعود إلى بطل سيرتنا (خالد وهج النار) ونرجع به القهقرى حتى نصل إلى السابعة من عمره حينما تفرست والدته في وجهه ملياً، فتوسمت فيه خيراً، وسجلته في الصف الأول الابتدائي، وصارت تنتظر حتى يحين وقت الدوام فتأتي بوعاء نحاسي أصفر وتملأ ثلاثة أرباعه بماء الجب، وتضع فيه سبع مسلات حديدية وتقرأ عليه آية الكرسي سبع مرات، وتنفخ فيه، وتسقيه منه، وتدهن له جبينه وخديه ومنخاره عسى أن يشع هذا الوجه بالذكاء الخارق والتفوق ويصبح معلماً لتقعد هي بين رفيقاتها وتتصدر إلى الخلف مزهوة وتتباهى عليهن أن ابنها قد صار أستاذاً قد الدنيا!
وإذا أردنا أن نتحدث عن المصادفات التي تلعب دورها في صناعة تاريخ البشر، فإننا نستطيع أن نقول إن اليوم الذي دخل فيه خالد إلى الصف الأول الابتدائي قد تزامن مع ولادة الجارة أم ابراهيم لولدها البكر ابراهيم.. يومها قالت أم خالد لأم ابراهيم: مبارك ما أجاك.
وقالت أم ابراهيم لأم خالد: مبارك قبول ابنك خالد في المدرسة.
وعلى مايبدو فإن الأمهات، بسبب تعلق قلوبهن بأبنائهن، لايصلحن للفراسة والتنبؤ، فقد أثبت خالد وهج النار للقاصي والداني أنه (طشم) وأن رأسه مغلق وخال من أي ثغرات وكأنه (صبة شمنتو) وشرع بناء على ذلك يرسب.
وحينما رسب أول سنة كان ابراهيم قد كبر سنة، وفي السنة الثانية كبر سنة ثانية، وهكذا يا سيدي، خالد يرسب وابراهيم يكبر حتى أصبحا- انظروا إلى محاسن الصدف- على مقعد واحد.
ومنذ الأيام الأولى لدخول ابراهيم إلى المدرسة لمع نجمه بما هو عليه من شدة الذكاء، ومقدرة ذاكرته على الحفظ إضافة إلى سرعة بديهته في الإجابة عن أي سؤال يوجهه إليه معلم الصف على حين غرة، حتى ولو كان ينتمي إلى جنس أسئلة الذكاء.
ولئن كان خالد قد فرح كثيراً بكون جاره ابراهيم قد أصبح جاره في المدرسة أيضاً، إلا أنه لم يكن يعلم أنه سيصبح نقمة عليه، وكلما لامس الكوز الجرة سيوبخه الأستاذ عبد الله على غبائه وقلة اهتمامه بالدراسة قائلاً له:
الله لايعطيك العافية ياخالد وهج النار فوق تعبك، انظر إلى (ابراهيم) هذا الولد الصغير الذي لا تصل قامته إلى ماتحت كتفيك، وإذا وضعت قدمك الشبيهة بالشختورة في كفة الميزان ووضعت ابراهيم كله في الكفة الأخرى، ستجد قدمك أثقل منه، انظر إليه كيف يتعلم ويجيب عن كل الأسئلة بسرعة البرق بينما أنت (طشم) لاترتجى منك سوى فائدة وحيدة، وهي أنك تسند الحائط الجنوبي للصف منذ سبع سنوات خشية أن يقع رؤس التلاميذ فيزهق أرواحهم!
أم خالد، من جهتها عرفت بما يجري في المدرسة، فاستبشرت خيراً، وعلى الفور طلبت من زوجها أن يحضر صينية كنافة أم النارين، وعزمت أسرة أم ابراهيم للسهرة عندهم، وبعد أن قدمت لهم الكنافة الشهية طلبت من ابراهيم أن يعلم ابنها خالداً بعض الدروس، وأن يساعده في حفظ بعض الآيات القرآنية.
قال ابراهيم : على رأسي ياجارتنا.
وفتح كتاب التربية الدينية على سورة المدثر وقال لخالد: قل بسم الله الرحمن الرحيم
فابتسم خالد ابتسامة الظفر، وتصدر إلى الخلف مزهواً، وقال لابراهيم بثقة مطلقة: هذه أعرفها!
بصعوبة بالغة استطاع ابراهيم أن يكتم ضحكته وقال لأم خالد:
ياخالتي أم خالد، ابنك لايحتاج إلى تعليم.. ولد خارق خزيت العين عنه!