افترضت أحلام اليانكي أنها أصبحت في وضع جيواستراتيجي -طبعاً بعد أن تنجز احتلال العراق- سوف يمكنها من احتلال إرادة روح العالم تحت مسمى الحرب العالمية على الإرهاب، وبهذا المسمى تجرف الثروات التي تم التخطيط لتجريفها وترسم الخرائط التي رصدت أجندتها عبر مشاريع تفكيكية متعددة تؤدي -فيما لو تمت- إلى تغيير الصورة العالمية والجغرافيا والتاريخ وتدخل البشرية في العصر الأمريكي المزمع وفق ما هندست له مجموعة أمريكا القرن الجديد وهي من اليمين المتصهين أو المحافظين الجدد المتصهينين.
وبينما كانت السياسة الأمريكية تتحرك فيما وراء البحار على أساس وثيقة الأمن القومي الجديدة التي ألغى فيها بوش الابن مبادئ مونرو واستبدلها: 1- بفك التحالف مع الحلفاء التقليديين لأميركا واستبعاد منطق الشراكة معهم لإجبارهم على الاستتباع.
2- شن الحروب بقرارات أمريكية لا علاقة لها بالحلف الأطلسي وبمؤسستيه الشرعية والدولية.
3- الإصرار على معادلة واحدة في العلاقات الدولية مفادها (معنا أو ضدنا).
4- تسخير وسائل الإعلام من أجل المزيد من تسويغ الحروب الأمريكية بجعلها حروباً للدفاع عن قيم العالم الحر ومبادئه وعن حقوق الإنسان والديمقراطية والغريب -في حال ما وصلت إليه أمريكا- هو الغطرسة التي لم يعد لها حد وعدم الشعور بحدود القوة حيث افترضت مجموعة اليمين المحافظ المتصهين أنها تستطيع احتلال أرض من تشاء، وتجبره على التصرف كما تشاء لكأن البشرية قطيع غنم ولا طاقة لديها لتقاوم.
وفي الزمن ذاته أي -في عامي 2002-2003- كان السيد الرئيس بشار الأسد قد رفض بشجاعته المعروفة احتلال أي قطر عربي من قبل أجنبي وأعلن عن التزامه بنبض الشارع العربي وعن عدم ترك الإخوة العرب يقاتلون محتليهم بمفردهم، فالمعركة على أي أرض عربية ضد الغزاة هي معركة قومية ولن تدخر سورية أي جهد في أن يكون لها فيها شرف البلاء الحسن، ولحظة أخذت ارهاصات احتلال العراق تظهر في منطوق حكام البنتاغون واتضح الدور القذر للوبي الصهيوني، في هذا الشأن كانت مقولة السيد الرئيس بشار الأسد إن أمريكا إذا ما أرادت احتلال العراق فسوف تدخل هي والمنطقة في المجهول.
ومنذ نيسان 2003 حتى 30/6/2009 لم تجد أمريكا في العراق لحظة اطمئنان على وجودها وجنودها بآن معاً حيث إن المقاومة العراقية شكلاً والعربية مضموناً أكدت من جديد وحدة العرب في الوجود والدم والمصير وكانت سورية كعادتها في التاريخ (يوم ذهبت لنصرة رشيد الكيلاني عام 1941 ضد الاحتلال الإنكليزي للعراق).
وها هو الحال الأمريكي اليوم -بعد الانسحاب الجزئي الذي حصل قبل يومين- يشير إلى ما وصفته سورية وقالته لصانع القرار الأمريكي من أنه سيدخل في المجهول حتى يخرج بأسرع وقت من العراق.
ولو أتيح لنا أن نحاور مجموعة الغباء الأمريكي حول ما صدروه من أفكار الهيمنة وما تسببوا به لأمريكا من كره دولي منقطع النظير ومن خسائر اهتز على أساسها الاقتصاد الأمريكي فأفلس /54/ بنكاً أميركياً ووصلت نسبة البطالة إلى 9٪ وانتهى -مع هذا الحال- زمن الوفرة المادية التي تمثل عامل التناسج المجتمعي الوحيد في أمريكا، إذ لو بقي الحال يشير إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والفقر فإن احتمالات تفكيك أمريكا وزوالها تصبح ممكنة.
والسؤال الذي كان ولا يزال من كافة العقول البشرية التي تعاين المشهد الأمريكي أو تعاني منه هو أن الرئيس أوباما -رغم ميراث الإدارة الجمهورية الثقيل -لا يزال ينظر إلى أمن إسرائيل على أنه مرفوع فوق أي شكل للحل في الشرق الأوسط متناسياً -عن عمد- أن إسرائيل هي المهدد الوحيد لأمن الجميع في المنطقة وها هي رغم التوجهات الجديدة لإدارة الرئيس أوباما في موضوع الاستيطان تحتجز الأراضي في القدس وتعطي الإشارة لبناء /50/ مستوطنة في الضفة الغربية ونتنياهو يقيم جولة في أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق بهدف استمرار التضليل حول أمن إسرائيل والوهميات الإسرائيلية كلها في موضوع السلام الذي لم تقترب منه إسرائيل في أي مسعى لها.
وإذا عدنا إلى تحليل تحولات الوعي والقرار في المجتمع الدولي -خاصة بعد وصول لجنة تقصي الحقائق إلى غزة ومن ثم شروعها بالعمل- نتوصل إلى حقيقة افتضاح الغطرسة الإسرائيلية أكثر فأكثر على يدي نتنياهو وليبرمان وحتى الصحف الصهيونية من داخل الأراضي العربية المحتلة وفي العالم لم تعد تعطي الانطباع عن راحة داخلية في قلب هذا الكيان العنصري الغاصب النازي وهذا يعني أن إسرائيل قد ورطت أمريكا باحتلال العراق ظناً منها أن أمريكا سوف تغير معادلات الصراع العربي الصهيوني لمصلحتها، لكن هذا الظن قد خاب، فأمريكا قد غرقت في رمال العراق المتحركة وصارت تبحث عن منج لها من هذه الورطة تاركة إسرائيل تواجه مشروعها الذي آل إلى زوال مهما مارست من غطرسة.
ونعود إلى مقولة السيد الرئيس بشار الأسد حول دخول أمريكا في المجهول حين ستحتل العراق لنرى كيف فشلت كافة السياسات والمخططات الأمريكية في المنطقة وكيف كانت وقفة الصمود والمقاومة هي البديل الطبيعي عن كل وقفة فيها خروج عن الحقوق وعن الثوابت وعن قيم الاستقلال والوطن الواحد وكم تردد بين الأشقاء العرب عن أن مفاتيح الحلول في المنطقة هي بيد أمريكا وها هي بعد ورطة الحرب العدوانية الثانية على غزة في نهاية عام 2008 ومطلع 2009 تعود المفاتيح ذاتها إلى اليد العربية المقاومة وتفشل أمريكا وإسرائيل بفرض أي حل أو إرادة على الذين لم يغادروا الخندق وتدعمهم سورية.
وحين يشن عضو مجلس العموم البريطاني السير جيرالد كوفمان هجوماً عنيفاً على الممارسات الإسرائيلية القمعية المطبقة بحق الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية ويشبهها -أي هذه الممارسات- بنظام الفصل العنصري البائد في جنوب إفريقيا ألا يعني أن رأياً عاماً برلمانياً في أوروبا قد ضاق ذرعاً بما يحدث لشعبنا في غزة والقطاع من ممارسات لاإنسانية ومن «هولوكوست»؟.
وبهذه المتحولات ولا سيما بداية الخروج الأمريكي من أرض العراق -يصبح المشهد السياسي في المنطقة قابلاً هو الآخر للمزيد من التحول على ضوء رفض أوباما للضغط اللازم على إسرائيل ورفض إسرائيل لخطة أوباما وتصريحات ليبرمان المشيرة إلى ترانسفير لعرب 48 داخل الأرض المحتلة ولوصول لجنة تقصي الحقائق إلى غزة.
كل هذا الحال لن يبقي المنطقة رهينة بيد أمريكا المتراخية ولابيد إسرائيل التي لم يعد بأيديها الحلول عن طريق الحروب ولم يعد حرف الصراع إلى عربي إيراني مجدياً، فالخروج الأمريكي يؤذن بعهد جديد لعلاقات عربية أكثر توافقية ننتظرها جميعاً.