مسرحاً لابتزاز الدول الاستعمارية الكبرى، وكان آخرها الاحتلال الأمريكي للعراق.
ظنت الولايات المتحدة التي رعت وطورت التنظميات الارهابية حول العالم منذ المنتصف الثاني للقرن العشرين، أن ذلك سيمكنها من تحقيق أهدافها في ازاحة ومنع ظهور منافسين لها على الساحة الدولية، ووسيلة للضغط على الدول الاقليمية التي تنتهج سياسة وطنية معادية لمشروعاتها وسياساتها حول العالم، وبعد أن شعرت أن القوانين والأعراف الدولية ستكون عائقاً أمام اخضاع الدول الاقليمية لابتزازاتها السياسية، وخاصة بعد أن وجدت معارضة دولية شديدة في توجيه ضربة عسكرية للعراق والاستمرار في فرض الحصار الاقتصادي عليه، استخدمت الارهاب ذريعة لها، كي تتحرر من هذه القوانين والأعراف ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول- التي تشير معظم الدلائل والدراسات إلى أن صناع القرار الأمريكيين هم من وقفوا وراء هذه التفجيرات- كي تطلق أمريكا العنان لجيوشها وأساطيلها، من أجل فرض واقع جيو سياسي جديد حول العالم يضمن لها البقاء على هرم السياسة الدولية، وكانت أولى محطات هذه الجيوش أفغانستان ثم العراق، على أمل نقلها إلى أماكن وأهداف جديدة، لكن المقاومة الكبيرة التي واجهتها في هذه الدول، جعلتها تتخبط في مستنقعات خطرة، لم تعد تعرف طريقة للخروج منها بأقل خسائر ممكنة.
إن احدى أهم نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، كانت التحول في المشهد السياسي للشرق الأوسط وتغير موازين القوى في المنطقة، إيران وسورية وتركية، إن الجيوش الأمريكية تقع على حدودها، ولا تخطط هذه الجيوش مغادرة المنطقة على المدى المنظور، وهذا ما دفعها إلى اعادة النظر في مواقفها السابقة فيما يخص قضايا الأمن الاقليمي، والتفكير بجدية في ضرورة تأسيس منظومة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط. فقد أدركت قيادات هذه الدول، وخاصة بعد الضغوطات التي مارستها أمريكا على كل من سورية وإيران، ضرورة التقارب، من أجل اتخاذ موقف موحد من القضايا الإقليمية الملحة، وبالتحديد من المسألة العراقية، التي ستشكل تهديداً خطراً لأمن هذه الدول، في حال تقسيم العراق إلى دويلات، على أساس طائفي وقومي، مثلما كانت الإدارة الأمريكية ومازالت تخطط له.
إن تركيا وايران وسورية تسعى إلى تأسيس توازن جديد للقوى في المنطقة بهدف ملء الفراغ السياسي الذي شكله سقوط بغداد، وتسعى من خلال تقاربها وتحالفها، إلى اضعاف الضغوطات الأمريكية على دولها، والرد السريع والفعال على ما قد تقدم عليه اسرائيل من حماقات في المنطقة، بالاضافة إلى التعاون المشترك فيما بينها، للرد على ما يشكله الارهاب الدولي من خطر على أمن دولها، وخاصة أن كلاً من هذه الدول عانت وتعاني من آثار هذا الارهاب.
إن الكثير من المحللين السياسيين الغربيين وغيرهم، ممن ليس في مصلحته هذا التقارب، يشكك في استمراريته، ومتانته، ويعزون ذلك لما شهدته العلاقات بين هذه الدول، من حروب ونزاعات في الماضي، على أساس مذهبي وقومي. نقول لهؤلاء المثل العربي المعروف: «من بيته من زجاج عليه ألا يرمي غيره بالحجارة» فتاريخ العلاقات ما بين الدول الغربية حافل بالحروب والنزاعات كان آخرها ما شهده النصف الأول من القرن العشرين، من أكبر حربين دمويتين في التاريخ البشري، راح ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا، ودمار اقتصادي لم يسبق له أي مثيل، وها هي الدول الأوروبية اليوم متوحدة ولها عملة مشتركة وبرلمان مشترك وتسعى إلى تأسيس جيش مشترك يدافع عن مصالحها حول العالم.
إن التحولات في السياسة الداخلية والخارجية في تركيا تؤكد أن عودتها إلى وسطها الجغرافي والتاريخي، وعمقها الاستراتيجي، ليست عودة مرحلية أو عارضة، وإنما هي انعكاس لتطورات داخلية وخارجية مهمة، أخذت تتبلور في تركيا، بعد انتهاء الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفييتي، أدت إلى ايصال حزب العدالة والتنمية إلى السلطة الذي حقق نجاحات ساحقة في الانتخابات البرلمانية أعوام 2002 و2007، حيث تبنى هذا الحزب سياسة مغايرة للسياسة السابقة، وأحدثت تحولاً مهماًً في سياسة تركيا الخارجية، أخذت تعتمد على أسس استراتيجية جديدة، تهدف إلى اتباع سياسة خارجية مستقلة، تعتمد على مكامن القوة الجيوسياسية لتركيا في علاقاتها الخارجية، للتأثير في الأحداث السياسية الجارية في المحيط الجيوسياسي التركي بما يخدم المصالح الوطنية لها، والعمل على أن تكون تركيا دولة اقليمية قوية لها دور أساسي في المنطقة. إن هذا التوجه الاستراتيجي الجديد في السياسة التركية يناقض السياسة الكمالية التي سيطرت على تركيا منذ عام 1923، ويحاول إعادة تركيا إلى بيئتها الطبيعية وعمقها الاستراتيجي، وقد كتب مستشار أردوغان للسياسة الخارجية سابقاً ووزير الخارجية حالياً أحمد داوود أغلو في كتابه «العمق الاستراتيجي» الذي صدر منذ عدة سنوات، أن مستقبل تركيا ليس في أوروبا، وإنما في آسيا. ودعا إلى تأسيس «كومنولث» يضم الدول الاسلامية المجاورة، بما فيها سورية وإيران.