أما الأرياف التي شوهتها الصناعات الملوثة للطبيعة عادت إلى نضارتها، فتوحيد الألمانيتين هو قبل كل شيء قصة نجاح.
بعد مرور عشرين عاما على تلك الوحدة فإننا بالكاد نلحظ الأثر الذي تركه الجدار في برلين عاصمة ألمانيا الموحدة، فلم يعد هناك سوى مدماكين من الحجر مصفوفين وسط المدينة فالخط الطويل المحاذي للجدار يذكرنا بالجدار نفسه الذي كان يقسم ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية.
ذلك الجدار الذي هدم ترك خلفه ممرا فارغا بطول 150 كم وسط برلين، وأكد مهندسو المدن رغبتهم بتوحيد أهل برلين وتعهدوا بالتوحيد الطبيعي (المادي) للمدينة. كما تم إصلاح خطوط المترو القديمة التي تصل نصفي برلين وبنيت الجسور بعد أن كان هدّها القصف عام 1945 محولا إياها إلى أرض بور وبعد أن حولتها الحرب الباردة الى أرض مهجورة.
وأصبحت اليوم تلك المدينة التي كانت تشكل القلب النابض للعاصمة مسرح عمل المهندسين المعماريين الذين حولوها الى منهاتن صغيرة بأبنية جد حديثة شكلت علامة وصل بين الألمانيتين.
واراد المهندسون المعماريون أن يجعلوا من برلين ديمقراطية نموذجية بتسليط الإضاءة بشكل جذاب على بناء البرلمان من القبة الزجاجية كرمز الى شفافية الديمقراطية وتشييد نصب تذكاري للهولوكوست وسط برلين يؤكد أن ألمانيا لم تنس تاريخها.
لكن ينبغي ألا يقف الماضي عائقا بعد اليوم أمام تبوؤها لسيادتها فأباحت لنفسها التدخل العسكري مجددا على أراض خارجية بدءا من شواطئ لبنان وحتى جبال أفغانستان بحجة وقوفها إلى جانب حلفائها، وأنها لم تعد قزماً سياسياً، كما لم ترغب ألمانيا بالتخلي عن كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي وأخذت تلعب دوراً قوياً مع الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي وروسيا باعتبارها شريكة لها، كما استطاعت التغلب على مشكلاتها وأخذت تدافع عن مصالحها الوطنية، لكن أثبتت الأزمة المالية أن لتضامنها الأوروبي حدوده.
مع ذلك لاتزال تكمل ملامح توحيدها، فمنذ عام 1990 تكلّفت مقاطعات ألمانيا الغربية بحدود 1200 مليار يورو كي تعيد ألمانيا الشرقية إلى وضعها وشمل عملها بحسب تقديرات الاقتصاديين البنى التحتية، الطرقات, ضبط الأجور والمعاش التقاعدي والتكافؤ بين عملتي الدولتين. وقدر الاقتصاديون الألمان أن التوحيد الاقتصادي السريع الذي أراده كول كلف ألمانيا الشرقية السابقة الكثير فإدخال المارك الغربي الى ألمانيا الشرقية وتحاذي الأجور ألجما التنافس بالمقارنة مع بولونيا وجمهورية التشيك ، كما أن الخصخصة الواسعة بوتيرة جامحة لشركات ألمانيا الشرقية قبل التوصل إلى تلاؤم مع السوق كلفت خسارة ملايين الوظائف.
بحسب معهد IW فإن مستوى المعيشة في ألمانيا الشرقية سابقا والتي كانت تقاس بصافي الانتاج الوطني للفرد الواحد لم تكن تصل إلى 70٪ عما هو عليه الحال في ألمانيا الغربية، وهي تحتاج إلى عشر سنوات إضافية ليصبح 80٪.
أما سياسياً ومن خلال لقاء صحفي أجرته صحيفة الفيغارو مع زبغينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأميركي جيمي كارتر فتحدث حول النتيجة الأساسية لسقوط جدار برلين بالنسبة لسياسة أميركا الخارجية بقوله:
إن سقوط الجدار منح هامشاً كبيراً للعمل على مسائل أخرى غير الحرب الباردة، كما أن توحيد الألمانيتين ساعد على تسوية المسائل السياسية والإيديولوجية الكبرى للقرن العشرين وبدت أوروبا أكثر من أي وقت مضى كشريك لأميركا.
أما حول ما إذا كانت ألمانيا قد وجدت مكانها تماماً في أوروبا فأجاب بأن ألمانيا في طريقها لتصبح أهم دولة أوروبية.
فالبريطانيون يواجهون عدداً من المشكلات السياسية والانتخابية وبالنتيجة دورهم في أوروبا تقلص ، أما فرنسا فتعرف تقاربات واسعة في السياسة الخارجية لكنها لاتبدو مستعدة لتثبيت علاقة شراكة ثابتة، إذاً العديد من الدول الأوروبية تنتظر من ألمانيا استلام كفّة القيادة.
وبصدد التساؤل بأن العديد من دول أوروبا الشرقية ترى اليوم أن أميركا وأوروبا الغربية لا تعيران انتباهاً كافياً للجدار الجديد الذي يقف حائلاً بين الاتحاد الأوروبي ومجتمعات أوروبا الشرقية مثل روسيا وأوكرانيا وجورجيا، فيجيب:
قلق دول أوروبا الوسطى واضح إذ إنها ترى الحاضر من خلال الماضي.
لكن إن اتضحت مخاوفها ينبغي عندها أن تحل محلها رؤيا جيوسياسية أكثر شمولاً، إذ لا يمكن النظر إلى روسيا باعتبارها مصدر الخطر الكامن الوحيد، إنما يجب النظر إليها باعتبارها شريكاً أيضاً.