تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حســـــــناء وشـــــــــــاعران

رسم بالكلمات
الأثنين 9-4-2012
مالك عجيب

متلذذاً بكل بيتٍ وشطرٍ وكلمة فيها، أعاد للمرة الثانية قراءة قصيدته المنشورة في الصفحة الأخيرة للصحيفة.

أخيراً .. هاهي أولى بواكير إبداعه تأخذ طريقها إلى عالم النشر بعد طول انتظار وترقب، وهاهو حلمه القديم بولوج دنيا الأدب والشعر يغدو واقعاً، إنها الخطوة الأولى.. نعم، ولكن أليست هي التي قيل أنها نصف الطريق؟‏

غمرته النشوة حين تخيل معارفه وزملاءه يقرؤون اسمه الثلاثي في الصحيفة، شعر أنه بحاجة لمن يشاطره بعضاً مما يعتمل في نفسه من غبطة ٍ وزهو. جال ببصره في وجوه الركاب آملاً ً بصدفة ٍ ما قد تحقق له رغبته، دون جدوى، فامتعض من وجوده في مثل هذه اللحظة العظيمة ضمن عربة قطار مزدحمة بمسافرين ذوي وجوه جامدة بلا ملامح لا شاغل لهم أعظم من رغبتهم بمرور الدقائق المتبقية على موعد انطلاق الرحلة سريعاً، ليسلموا أنفسهم لنوم يطوي الوقت أو لمتابعة فيلم عربي يقتله.‏

لم يكن قد اكترث بعد لخلو المقعد المجاور له عندما حرّك ركود المشهد الممل ظهور صبية أنيقة من مقدمة العربة. أثار جمالها اللافت انتباه معظم الركاب، تابع بعينين ساهمتين تقدمها بين صفوف المقاعد حاملة بإحدى يديها مجموعة كتب وصحيفة، وبالأخرى تذكرة لا تنفكّ تنقّل عينيها الخضراوين بينها وبين أرقام المقاعد على الجانبين، تنبّه للمقعد الشاغر بجانبه فتضرع إلى القدر أن يمنّ عليه بمصادفة ٍ ستكون جدّ لائقة بهذا الصباح المبارك، بينما نبضات قلبه تتسارع على وقع خطواتها المتهادية نحوه، إلى أن فقد القدرة على تمييزها عن صوت هدير محرك القطار حين توقفت قبالته وثبتت عينيها للحظة ٍعلى البقايا المبهمة للرقم على ذراع المقعد الشاغر ثم سألته بودّ ٍوارتباك:‏

- عذراً .. هل هذا الرقم هو 29 ؟‏

ازدرد ريقه بصعوبة ٍوأجابها على الفور وهو يفسح لها أكبر مجال ممكن لتجلس:‏

- نعم .. نعم أعتقد ذلك، فرقمي .. أعني رقم مقعدي 30 وهو يليه مباشرة ً، تفضّلي.. تفضّلي يا .. آنسة .‏

أضاف جملته الأخيرة بعد تأكده من نتيجة المسح التلقائي لأصابع كلتا يديها.‏

سرّ بهذه المصادفة اللطيفة غير المتوقعة، وانهمك عقله سريعاً في جمع وتحليل المعطيات الأولية، فبدأ يكتشف أسباباً أخرى أكثر مدعاة ً للسرور، إنها تحمل كتباً جامعية.. سنة ثانية.. جميل جداً، أدب عربي! .. رائع، ثم ماذا أيضاً؟ صحيفة!؟ وأي صحيفة!؟ إبداعات! صحيفته! رباه يا للمصادفة الرائعة، أي سعد ٍ يحمله هذا الصباح؟ أي ريح ٍ طيبة ٍ تهبّ عبر ضجيج محرك القطار ورائحة الوقود المختلطة بدخان سجائر المسافرين؟‏

ثم وصل به حسن طالعه إلى حد أنها بادرته بالسؤال بعد لحظات من جلوسها– ودون سبب وجيه- عما إذا كان طالباً جامعياً مثلها، وبالرغم من إجابته بالنفي، إلا أن سؤالها مهد السبيل له للوصول إلى نقطة تلاق ٍ مثالية عبر التعريف بنفسه كخريج حديث نسبياً من ذات القسم، مما سيتيح له فرصة نادرة لخوض الحديث من موقع الأستاذ، فرصة سيحرص على استغلالها لتوجيه مسار الحديث بحيث يصل به في اللحظة المناسبة إلى قنبلته المدوية المخبأة بين صفحات الصحيفة والتي ستشكل ولا شك ٍ نقلة نوعية في طبيعة ومضمون الحوار و(العلاقة) فيما بينهما.‏

عندما فتحت الصحيفة وراحت تقلّب أوراقها، شعر كما لو أن الأقدار- و لغاية ما – توجه تتابع الوقائع وفق تسلسل مثالي لم يكن ليحلم بحدوثه, بدءاً من اللحظة التي اختار فيها تلك العبارة المعبرة (أنا العطش للحب) عنواناً لقصيدته الميمونة، ها هي تصل إلى الصفحة الأخيرة.. هل ستلفت انتباهها؟ بالتأكيد، إن لم تفعل ما هو منتظر من طالبة أدب عربي, فعليه التدخل بطريقة ما.. طريقة مدروسة بعيدة عن التكلّف والاستعراض، توحي بالثقة والتواضع في آن.‏

رباه.. هاهي تطوي الصفحة وتشرع في قراءتها باهتمام جليّ، لا يكاد يصدق ما يحدث، لم يعهد طالعه يوماً بهذا الحسن والبهاء، إنها لا تفتأ تسهّل عليه مهمة قطاف الثمرة الدانية اليانعة، اشتعل نشوة ً وشعر برغبة ٍ في التقاط أنفاسه تمهيداً للحظة الحسم المثيرة، انتشلها من بين كلمات قصيدته مقاطعاً بمرح: سأحضر قهوة، كيف تحبين قهوتك؟‏

رفعت عينيها عن الصحيفة بشيء من دهشة ٍ بريئة ٍ وأجابت بود بالغ:‏

بصراحة.. لا أود أن أبدو متطفلة ولكنه عرض أعجز عن رفضه في ظرف كهذا، ساده لو سمحت، وشكراً جزيلا ً للطفك.‏

رقص قلبه بين ضلوعه فهبّ واقفاً واندفع نحو مؤخرة العربة بحيوية دافقة أدت إلى اصطدامه بعد خطوات ٍ بكهل ٍ وقور ٍ يسير متمهلا ًبعكس اتجاهه فكاد يوقعه أرضاً، سارع إلى مساعدته على استعادة توازنه مردداً عبارات الأسف والاعتذار ومبدياً استعداده لتقديم أي مساعدة ممكنة ثم تابع طريقه نحو البوفيه بعد أن ختم وابل اعتذاره من الكهل بقبلة حارة على جبهته.‏

وحين اعتذر منه عامل البوفيه موضحاً أنه سيضطر إلى تأخيره لبضع دقائق ريثما يقوم بتبديل أسطوانة الغاز، تطوّع بكل روح ٍرياضية ٍلمساعدته في تبديلها وبغلي قهوته أيضاً.. بدت له الدنيا في أبهى صورها.‏

لدى عودته حاملا ً فنجاني القهوة اللذين حضّرهما بعناية ٍ وحضّر معهما أيضاً خطته لاستثمار مفاجأته بالشكل الأمثل، فوجىء بالكهل الوقور إياه وقد احتل مكانه إلى جوار فتاته، آخذاً بزمام حديثٍ معها بدا من خلال بعض ما التقط منه مثيراً للتوجس وبعيداً عن كونه حديثاً عابراً، أثار وقوفه قبالتهما وبين يديه صينية القهوة انتباه الكهل الذي قطع استرساله لبرهة ٍ ولوح له بيده قائلا ً باقتضاب: لا .. لا، لم نطلب قهوة، ثم عاد مباشرة ًلمتابعة حديثه مع الفتاة التي تدخلت سريعاً محاولة ً إزالة سوء الفهم الذي انعكس امتعاضاً وحرجاً واضحين على وجه الشاب فبادرته بلهجة رقيقة بينما تمد يدها لتناول فنجانها:‏

سلمت يداك .. هل عرفت الأستاذ؟ إنه شاعرنا الكبير الأستاذ حمدي حاتم، لقد أثارت إحدى القصائد في صحيفتي انتباهه فتكرّم بالتعليق عليها و.. ربما بإمكانك أن تجلس مكانه هنا قبالتنا وتشاركنا الحديث، أو أن .. لا أدري، أردفت محاولة ًحسم الموقف المحرج، وفهم الشاعر الكبير أخيراً أنه يجلس مكان الشاب فاعتذر منه ببرود مردداً اقتراح الفتاة بمبادلته مقعده لبعض الوقت دون أن يكلف نفسه عناء تقديم تبرير لذلك.‏

أربك التطور المفاجئ الشاب، ووقع أسير قلق عميق تركه وقع اسم الشاعر الكبير في نفسه، مضافاً لامتعاضه الشديد من تطفله على مقعده العزيز وربما على منحى الأحداث برمتها فلم يجد بداً من الجلوس قبالتهما صاغراً وعيناه معلقتان على قصيدته المتأرجحة بين يدي غريمه الكبير الذي ما لبث أن استأنف محادثة الفتاة بلهجة ٍجادة ٍتطفح رصانة وثقة:‏

نعم يا عزيزتي .. مصيبتنا الكبرى التي عليك إدراكها بحكم تخصصك الأكاديمي، أننا نعيش في زمن رديء غدا فيه الأدب، والشعر على وجه الخصوص، مطية يمتطيها كل من هب ودب من أنصاف المثقفين لبلوغ غايات شتى باستسهال مقيت يثير الاستفزاز، كهذا الشويعر الذي أراهن أنه ما أراد من قصيدته هذه– إن جاز لنا أن نسميها قصيدة – بدءاً من عنوانها، إلا أن تكون شركاً محكماً للإيقاع بفتاة ما، كما أراهن أيضاً أن صاحبها أستاذ لغة عربية - حديث العهد على الأغلب – فخور بمقدرته على إنجاز نص ٍ أدبي خال ٍ من الأخطاء النحوية واللغوية، غير مدرك ٍ لخوائه أيضاً من الفكرة و الصورة والبلاغة التي بدونها تغدو القصيدة جسداً بلا روح، بل جثة هامدة قد تفوح منها الروائح النتنة، الشعر يا صديقتي شيء آخر، إنه إحساس، موهبة فطرية، ملكة إلهية لا يمكن صناعتها أبداً.‏

ختم الشاعر الكبير نقده اللاذع للقصيدة المسكينة مزهوّاً بنظرات وإيماءات الإعجاب والتقدير التي ما انفكت الفتاة تغمره بها، ساهية ً عن خلو المقعد المقابل من شاغله الذي انسل بصمتٍ تاركاً قصيدته وقهوته وفتاته، وقطاره الذي بدأت لتوّها عجلاته بالدوران.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية