تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


طقــــــوس الخيـــــــــزران

رسم بالكلمات
الأثنين 9-4-2012
فاطمة عيسى قراجه

جلس في ظل صخرة تتربع كنصب تذكاري على فوران بركان غابر الحلم .. لم يعد له حتى الذكرى, لولا تصلب اندفاعات غضبه وثورانه.

أخرج كتابه المقدس يتوسطه قلم انبرى نصف عمره, وراح يرتل أهازيجه, صوفياته بصوت مفهوم وغير مفهوم ..أنشد الخيزران أناشيده المعهودة, وغنى مع تمايل الريح, لكن أحداً لا يهتم به, فليس من أسطورة جديدة.. لم يبح أحد بقصة تروى. زمجرت الريح ولفت حول سيقان القصب ثم ولّت مخلفة الخيزران شامخاً, وكأنه يتلو الفاتحة على أرواح هامت وامتزجت في الهواء الشفيف. لم يكترث الراعي لأصوات من حوله.. كل شيء كان ينادي ويستنجد به.. الأشجار الجافة والمياه المستكينة.‏

يتأرجح جسده مع إيقاع صوته مرة للأمام وأخرى للخلف وبين الفينة والفينة ينهض ليعيد خروفاً إلى مكانه ..‏

اشرأبت أعواد القصب نحوه تستطلع الحكايا لترويها وتعزفها على تخاريمها المتعرجة, لكنه غافل عن نحيبها وعن غنائها. سنوات عشر بل أكثر مرت على عمله هذا حينما كان في العشرين أو الخامسة والعشرين.. الجميع يتذكر إلا هو.‏

حينها دفن حكايته تحت عيدان الخيزران بإغراء وغواية منها, لكن الريح الآثمة هبّت من بين السيقان الرفيعة لتعزف أسراره على نايات الحنين, وتجاويف القصب لا تتقن حفظ الأسرار ولا تدفن حكايات الحزن..‏

لعينيك أبجدية لا يتقنها إلا نزيف القلب يا أمي. لعينيك خلق الكون وبسط اخضراره معتمراً قبعة السماء. حينما غيّب الموت أمه كان معلماً في مدرسة القرية.. لكن أمه لم تمت فحسب, بل هاجرت وأخذت معها ضياء روحه.. كان يقول دائماً: كل الناس ما هم إلا قطرات ماء تجف تباعاً وتتبخر أو تتسرب بين رماد الأرض.. أمّه لم تكن قطرة ماء تتبخر في فضاء الكون, ولم تمتصها تربة متعطشة.. أمّه كانت اكسير حياته.. لكنها هاجرت مع السنونو دونما عودة, وأخذت معها ذاكرته ومكنونات نفسه.‏

هو في حالة انتظار.. سيأتي يومه ليجف ويتلاشى في عالم تسبح في فضاءاته الأرواح الهائمة التي تبوح ولا تبوح بحزنها.‏

أيها الراعي الحالم بحنان الأمهات.. كيف أهلت التراب على ذاكرتك العامرة بأطايب العطور والمعاني؟‏

أمي لم تمت.. كيف ألبسوها قميص التراب؟ كيف كفنوها الظلمة وغسلوها من رائحتي؟ كيف فعلوا كل هذا في غيابي؟ إنها مؤامرة ضدي, لقد وعدتني أنها ستراني عريساً.. وعدتني أنها سترى أولادي وأحفادي! كانت تبحث لي عن عروس! أمي لم تمت ستعود, أجل ستعود.‏

تدفقي أيتها الأمنيات على العتبات وأثمري أمهاتٍ تحرس الأحلام والبيوت الدافئة, وتدثر برد الأطفال والرجال بثوب حليبي الرائحة, فما زال يحس بطعم الحليب يسيل على شفتيه.. يلعقه عن شاربه الأشقر الناعم.. لا زالت تستولد الصباحات لتنعشها برائحة طعامها وعبيرها.. يحس بلمسات يديها المتعبتين وهي تقيس على بدنه ملابس جديدة مزهوة بمعرفة مقاساته وألوانه المفضلة دون رغبة منه في تبديل شيء منها .‏

أنا لم أقرر الزواج يا أمي.. أنت من قرر ذاك القرار الذي أودى بحياتك وأوقف نبض قلبك. أنت التي كنت تبعثين بي إلى هنا وهناك لأبحث عن صبية تناسبك, حينما لمع هذا القرار بذهنك بت شاردة, حائرة, لازمك الصمت والخوف. تيبس جسدك ورحت تدورين داخل حلقة مفرغة, وكأنك تتوجسين فقداني, رحت تبحثين وتبحثين دون جدوى.. لا تعلمين ماذا فقدت ولا تعرفين عما تبحثين! اشتعلت جذوة مرارة ترملك حين كنت لا أزال في رحمك, واتسعت مساحة الظلمة حولك حتى تلاشيتِ داخل الحلقة الملعونة.‏

هل توقف قلبك عن عزف أمنياته لذاك السبب؟ قد يتشرب أديم الأرض قطرات الماء المنثور على امتداده, يتشرب الناس كل الناس إلا أنت يا أمي.. فأنت الأرض, أنت أنفاس المراعي الصباحية, وصوتك كصوت المياه الراكضة من أعالي الجبال إلى أخاديد الحياة..أنت آلهة القمر الأزلية. يا لقلبي النازف كيف أضمده؟‏

تطاولت عيدان الخيزران المترقبة تنتظر كلمة منه. منذ زمن لم يسمع أحد صوته.. ذلك الصوت الذي كان يشدو بأناشيد الأطفال المدرسية أو يرتل آيات من الذكر الحكيم. كان الشيوخ يجلسون حول حيطان المدرسة المؤلفة من غرفتين ليستمعوا إلى المعلم الذي يصدح بصوته, يفخمه حيناً ثم يرققه بطريقة مبدعة وحين يذهب بتلاميذه إلى نهر القرية في حصة الرياضة, كانت العجائز تمشي خلفه ليتزودن من شبابه المتدفق واندفاع نهره الربيعي المعطر.. بينما أمه تقف على باب بيتها تشعل البخور وتتمتم بتعاويذ مفهومة وغير مفهومة خوفاً على وحيدها من عين حاسدة تأتي من هنا أوهناك.. إنها تضع في ملابسه أكثر من تميمة, فالزرقاء تحرسه من عين الحاسد, والسوداء لتبعد الهواجس عنه, والبيضاء لتنير دربه بنور الله, يا إلهي ما أجملك يا غياث! لماذا يبدو الولد الوحيد أكثر بهاءً من غيره؟ إلهي ارحمني من حسدي لكنزي.. لغياث أجمل الملابس المعطرة بكافور القلوب المعذبة وله الأطايب كلها.‏

لن تحلمي بعد اليوم أيتها النايات بحكاية مشابهة, فالأم تشربتها الأرض والشاب الذي يتمنى أن يتكور في رحم أمه هام على أحزانه ونسي كل شيء.‏

تنكّرت (دايانا) آلهة القمر بزيّ أمه وجاءته تسوق جيادها الناصعة, حاولت إيقاظه لكنه آثر النوم على سفح جبله ولم يشعر بقبلتها الحارة .. أخذت تناديه:‏

أيها الراعي.. غياث (أنديميون) لكنه لم يتحرك وظل غارقاً في حلمه. خافت عليه من الآخرين فلا شيء يشبه جماله.. حملته وفرت به إلى كهفها الذي لن يدنسه إنسان سرقت أضواء روحه وذهنه وراحت لتنام قريرة العين, من يومها وغياث غافل عن كل شيء.. ضلّ وهام على وجهه. شهور وشهور وهو يبحث عن أمه في القرى المجاورة, إلى أن اجتمع أهل قريته وأعادوه إلى بيته الذي كان يأبى دخوله دون أمه, رقاه الشيخ ابراهيم على مدى سبعة أيام متوالية وهو يوسده القرآن الكريم حتى همدت نفسه, واستكانت لمستقبل لا يعرف منه شيئاً.. لم يفكر أن يبحث عن آلهة القمر لتعيد أليه أنواره.. إنه لا يصدق ما حدث كما أنه لا يتقبل فكرة موت الأمهات.. ما زال يناجي أمه.. يحدثها.. يبعثر أشياءها في الغرفة, ثم يعيد كل شيء إلى مواضع أياديها.. فكيف تموت الأم التي تتنفس من أنفاس ولدها!‏

أمي لم أعد أطيق.. قلبي يتورم كدملة تكاد أن تنفجر.. يصيح في لياليه الطويلة وهي أمامه أبداً تحدثه, تبثه القوة, توسد عيدان الخيزران للياسمينة والعريشة, تسور بها الحديقة.. تحيك منها كوخاً في طرف حديقتها.. تغزلها مع جدائل شعرها الأشيب ليجلس وحيدها فيه ويقرأ ما يحب.. تبطن السقف بأكياس القنب الداكنة حتى لا تصل إليه شمس آب المحرقة, ولا تنسَ جرة الماء وأدوات الشاي.. ترتب كتبه على طاولة صغيرة .. لكن الأم تلاشت وتشربها السراب قبل أن تعلق له أصص الورد. تصبح غيمة سديمية حين ينهض ليضمها لن يجد شيئاً.‏

- أمي تعالي أو دعيني بسلام.. يصيح, ينادي باسم أمه عشرات المرات, يقع أرضاً رافساً الهواء بقدميه, والدموع حمم تحفر أثلامها في قلبه الكليم.. في كل مرة تحيله نوبات ألمه إلى كومة رماد منسية. همد غياث. استسلم لثغاء أغنامه ولحفيف الأشجار التي لم تورق بعد.. دفتره بين يديه ولا أحد يعلم هل ما زال يتذكر الكتابة والقراءة؟ هل يذكر كيف غيبها الخوف والحزن حين كان في العاصمة ينتقي عروساً من قريباته؟‏

ها قد استكان, وتربع الصمت على صدره بعد أن سرقت منه (دايانا) أضواء روحه.‏

استسلم وصار راعي قطيع القرية. لن أبوح لأحد بوجعي حتى لك أيتها العيدان, أعلم أنك تبكين أمي.. أعلم أنك تشعرين بالفقدان.. أعلم أنك تنتظرين أن أحدثك عنها... لكن لن تنعمي بمواويلي وغصاتي.. كفاكم تهريجاً على أحزاني فقد صرت بهلول قريتكم التي دفنتْ أمي في غيابي, كما دفنت أبي الشاب في غيابي!‏

فتح دفتره وتابع كتابة رسائله إلى أمه التي أخذت منه أسماء الورود كلها وكانت مذكراته التي واظب على كتابتها منذ سنين تحت عنوان (مواويل القصب).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية