فالحادثة التي شهدتها بلدة فيرغسون الصغيرة ذات الأغلبية السوداء بولاية ميسوري أعادت طرح دفعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بمسألة التمييز العنصري الذي يمارسه مجتمع البيض ضد أصحاب البشرة السمراء، لتطفو على السطح من جديد مشاعر القلق والتوجس والخوف لدى نحو 45 مليون مواطن أميركي أسود يعيشون في ظل نظام أبيض مازالت سلطاته وخاصة جهاز الشرطة يعاملهم كالعبيد.
فرغم مرور أكثر من مئة وخمسين عاماً على قانون «تحرير العبيد» الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لينكولن، وأكثر من خمسين عاما على الحركة الاحتجاجية الشهيرة التي قادها القس الأسود مارتن لوثر كينغ ضد التفرقة العنصرية بحق أصحاب البشرة السوداء، ما زال السود في أميركا يضطهدون ويعاملون بطريقة سيئة لا تليق بالبشر، ويقتلون على يد أفراد الشرطة والأمن لأبسط الأسباب ودون أن يلقى القتلة أي محاسبة تذكر، وهناك حوادث كثيرة تمت فيها تبرئة القاتل وإخلاء سبيله لأنه فقط ينتمي لمجتمع البيض، الأمر الذي فجر حركة احتجاجية كبيرة في ولاية ميسوري سرعان ما وصلت أصداؤها إلى نيويورك ومدن أخرى ليهتز عرش الرئيس باراك أوباما المحسوب على الأقلية السوداء ليقف عاجزاً عن إنصاف أبناء جلدته وكبح جماح ما يتعرضون له من انتهاكات من قبل الشرطة التي أفرطت باستخدام العنف والقمع ضدهم، ويتآكل رصيده الشعبي وينحدر إلى مستوى 41 بالمئة.
المثير للاستغراب والاستهجان هو أن أميركا التي تتباهى بالديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وتقوم بتقسيم الدول إلى محاور خير وشر واعتدال وتطرف وتضعهم على لوائح سوداء وملونة على أساس احترام حقوق الإنسان، وتشن حروباً باسم هذه الحقوق والديمقراطية، هي المتهمة هذه المرة بالتنكر لحقوق مواطنيها واضطهادهم والتمييز بينهم على أساس اللون والعرق والدين، لكن من يعرف التاريخ الأميركي القصير نسبياً لا يستهجن مثل هذه الحوادث والانتهاكات، فهذا التاريخ مليء بحكايات الرق والعبودية والتمييز العنصري ضد السود، وإذا ما قلبنا صفحات الماضي قليلا لوجدنا بأن الحضارة الأميركية الحالية قامت على أساس إبادة وطرد السكان الأصليين واستعمار واحتلال أرضهم، وقصتها مع الهنود الحمر ليست بحاجة للكثير من الشرح لأنها معروفة للقاصي والداني، ولا يقلل من هذه الحقيقة أو يضعفها وجود رئيس ببشرة سمراء في البيت الأبيض أو وزراء في الحكومة أو نواب في الكونغرس، لأن القوانين والدساتير الجميلة ليست فقط ما يكتب على الورق بل ما يطبق على أرض الواقع، وقد أثبتت الولايات المتحدة في مناسبات كثيرة أنها في مقدمة الأنظمة العنصرية التي تنتهك حقوق الإنسان وتضرب بعرض الحائط القوانين الدولية، وما تحالفها مع الكيان الصهيوني ودفاعها المستميت عن انتهاكاته وجرائمه بحق الفلسطينيين، وسكوتها عن تصرفات الأنظمة الخليجية القمعية الراعية للإرهاب سوى دليل على هذه الحقيقة.
لكن من سوء حظ أميركا أن خططها مكشوفة ونواياها مفضوحة سواء من قبل شعبها أو من قبل الشعوب الاخرى، والايجابي هنا ـ رغم قسوة الممارسات الأميركية ضد المواطنين السود ـ هو أنها وقعت في نفس الأفخاخ التي نصبتها للدول الأخرى لشرعنة تدخلاتها العسكرية العدوانية، فما كانت تنادي به من شعارات زائفة تحت عنوان «الربيع العربي» كان الأولى بها أن تتلقفه وتسعى لتلبيته في مجتمعها الثائر على التفرقة العرقية والتمييز العنصري، فكل المؤشرات والمعطيات تدل على أن السود في المجتمع الأميركي قد اختاروا توقيتهم المناسب لصنع ربيعهم بعيداً عن التضليل والادعاء، وإذا كانت عدوى «الربيع» ممكنة في منطقتنا وفي دولنا حسب ما تراه وتدعيه واشنطن فما المانع من انتقال هذه العدوى إلى الولايات المتحدة.. فهل تكتفي أميركا بنصب تمثال «للحرية» على أراضيها كي تتمكن من سلب الشعوب حريتها..الواضح أن السود قد بدؤوا المطالبة بحقوقهم فكيف ستتصرف أميركا..؟!