وفي ملحمتهِ التي اعتُبرت كبداية للملاحم عند العرب, بل كبداية لرغبة الشعر بمعرفةِ أسرارِ الوجود ومصير الإنسان والحياة. أيضاً, كلّ ما جعل الإلحاح رغبةً بالجواب, يؤلم روحَ شاعرٍ, لم تمنعه زهوة ما قبل الموت الذي خطفه وكان في حدود الثلاثين من عمره. لم تمنعه, من أن يترك, ما اعتُبرَ من أروع ما أبدعته قرائح الشعراء العرب, وفي ملحمتهِ التي اعتُبرت الأكثر شهرة وترجمة على مستوى العالم..
بينَ روحي, وبينَ جسمي الأسيرِ..
كانَ بُعدٌ.. ذُقتُ مُرَّهْ
أنا في الأرضِ, وهي فوق الأثيرِ.. أنا عبدٌ.. وهيَ حرةْ
بيد أن هذا المبدع الذي أسَّس, وكان في الثالثة والعشرين من عمره, المنتدى الزجلي الذي ضمَّ العديد من الأدباء العرب, كان يهدف, وبالرغم من إتقانهِ للاسبانية والبرتغالية, إلى الإبقاءِ على لغةِ الضادِ التي كانت الأقوى في مهجرٍ لم ينطق فيه إلا بها, والتي قدم بها مسرحيات منها «ابن حامد» و«سقوط غرناطة», وأناشيد كان أروعها «على بساط الريح» الملحمة التي كانت عبارة عن «حلم فحقيقة». الحقيقة التي تراءت له شعراً أنشده:
ياطيورَ السماءِ, في الريحِ روحي.. بيَّ جرياً.. على الجَلَدْ
وبجسمي طيري إلى حيثُ روحي.. فيهِ تحيا.. بلا جَسدْ
إنه قليلٌ مما اخترناه وأنشده «معلوف» في ملحمته التي أشادَ بإبداعها «فرانسيسكو فيلاسباسا» أمير شعراء الاسبان, وبمقدمةٍ جاءت في ستٍ وثلاثين صفحة, وصفَ فيها «معلوف» بالعبقرية العجيبة والخيال البعيد, وبكلِّ ما لم يقله أي شاعرٍ غربي بشاعرٍ عربي مهما بلغ من المكانة والشهرة.
هذا بعض ما استحقه هذا المبدع. هذا الشاعر العربي الذي اتَّخذ من عذابات الإنسان على الأرض, ومن ضياع المجد العربي في الأندلس, مادة تلهم إبداعه ما أشعل الحزن فيه. الحزن الذي دفعه للغور عميقاً في فلسفة الحياة وإنسانها.
نعم, لقد كان من أسباب حزن وتشاؤم «معلوف» الزمن الذي أنهك وطنه وأبناؤه باستعمارٍ جثم على صدرهما وأفجعهما, وبطريقة جعلته لا يتمالك قلمه. القلم الذي جعل منه «شاعراً في طيارة» وهو العنوان الذي أطلق أيضاً «على بساط الريح» ملحمته الشعرية التي نُشرت لأول مرة عام 1926 في مجلة «الجالية» بمدينة «سان باولو» وكان يومها مهاجراً إلى البرازيل. المدينة التي هاجر إليها أيضاً, كُثر من الأدباء والشعراء العرب, وممن وجدوا في تلك الملحمة ما اعتبروهُ وطناً لهم.
أخيراً, ودون أن نغوص في تفاصيل أناشيد الملحمة وأوجاع مفرداتها, نكتفي بالقول, بأنها حملت من الألم والتشاؤم واليأس, ما زاد من غربة الشاعر الذي ألقى اللوم على الإنسان. ذاك الذي نطق بلسانهِ صارخاً:
أنا عبدُ الحياةِ والموتُ أمشي.. مُكرهاً من مهودها لقُبُورهْ
عبدُ ماضمَّت الشرائعُ من جورٍ.. يخطُّ القويّ كلَّ سُطورهْ
أنا في قبضةِ العبوديةِ العمياءِ.. أعمى مُســـيَّرٌ بِغُـــرورَهْ