كان يرقبه كما كل الآباء وهو يترعرع بعرق كفاحه ومعه تكبر الآمال برجل يحقق المزيد من أحلام أبيه لكن اليد الصغيرة التي طالما حضنها بحنو الأبوة وبفيض من الشعور بالأمان..حملت إليه الموت من مكامن ضعف الإدراك..وعن سابق الإصرار والترصد..
(الثورة) تابعت تفاصيل هذه الجريمة المنسلخة عن الإنسانية وهي في منأى عن فطرة مجتمعنا ديناً وعرفاً وتقاليد حياة..وكانت المتابعة منذ أن طفت الحادثة على السطح حيث كان الجاني مجهولاً..إلى أن تكشفت خيوطها المقيتة وتبين أن الابن قاتل أبيه..
في الوقائع
بتاريخ 3/7/2005 وجد شخص مقتول في سيارته (ال ان) على طريق (حلب-دارة عزة) وبإجراء الكشف تبين أنه المدعو /أ-ع/ من مواليد (1955) وهو صاحب مطعم (ن-ل) ويعمل في العقارات.وأنه قتل ببارودة حربية أصابت عنقه,حيث تولى القاضي نوري الجاسم- قاضي التحقيق الثاني في جبل سمعان التحقيق بملابسات هذه الجريمة..وبمتابعة قيادة شرطة المحافظة قسم جنائية جبل سمعان توضح أن المغدور تعرض لطلقات نارية من سيارة أصغر من حجم سيارته كون الإطلاق كان بشكل مائل من الأسفل إلى الأعلى..وبدأ التحقيق عن علاقات المغدور المالية والاجتماعية فتبين أنه حسن السمعة والأخلاق وتم استبعاد المشتبه بهم لعدم وجود الدليل.
وتمت متابعة وتدقيق تحركات المغدور ومن رافقه أو زاره يوم الحادثة وسماع جميع الشهود الذين رأوه في الساعات الأخيرة قبل مقتله..ومنهم شاهد مهم من أبناء قريته (عنجارة) حيث أكد أنه شاهد المغدور خارجاً من القرية الساعة (12,30) ليلاً بمفرده وكانت خلفه سيارة موديل (مازدا 929) لون بحري تسير بمسافة ثابتة لا تتجاوز (30) متراً.
وبمتابعة هذه الأوصاف تم التوصل إلى معلومة تفيد أن هناك سيارة متدهورة وموجودة في محل (تصويج) لون بحري وذلك بعد عشرة أيام من الحادثة..
ويضيف القاضي (نوري الجاسم): خلال التحقيق تبين أن السيارة عائدة لمكتب استئجار وأنها تدهورت يوم 4/7/2005 على طريق (أورم) وقد عثر بداخلها على فوارغ طلقات حربية..
حصاد الضلال التهلكة
المفاجأة كانت عندما تبين لقسم جنائية جبل سمعان أن هذه السيارة كانت مؤجرة لابن المغدور (م) مواليد (1983) بتاريخ 30/6/2005 وأنه أعادها للمكتب بواسطة صديقه (أ) يوم 4/7/2005 أي بعد يوم واحد من مقتل أبيه!! إلا أن الصديق بادر إلى استئجار السيارة مجدداً فور تسليمها مخالفاً تعليمات صديقه (م) لفكرة آنية خطرت في ذهنه وكانت السبب المباشر في التوصل إلى الفاعل..حيث خرج بها قاصداً قريته (تقاد) فتدهور بها عند قرية (أورم) تأكيداً على أن حصاد الضلال هو التهلكة..
وعلى الفور تم إلقاء القبض على المذكور (أ) وابن المغدور (م) إلا أن التحقيق معهما لم يأت بنتيجة في ظل الإنكار المستميت من أجل الحياة..
إلا أن تكثيف التحقيق ومواجهتهما بالأدلة وهي (الفوارغ) ووجود السيارة لديهما أثناء وقوع الجريمة وشهادة ابن القرية..اعترف المذكوران بما تقشعر له الأبدان..
وبهذا الصدد تقدم القاضي (نوري الجاسم) بجزيل الشكر والتقدير للمقدم (عبد اللطيف المفضي) رئيس قسم الأمن الجنائي بجبل سمعان وكافة المعنيين وعناصر القسم لتكافل جهودهم وتفانيها في متابعة أطراف القضية والوصول إلى الفاعل..حيث تبين أن (م) قرر قتل أبيه بدافع عدم تحقيق المغدور لرغباته المادية, وتزويجه من فتاة يحبها ولهذا أراد التخلص منه لضعف إدراكه الإنساني على ما يبدو...واعتمد على صديقه (أ) وبمساعدة صديق آخر يدعى (ع) لقاء وعود بمبالغ مالية..حيث كان المغدور من عداد الأثرياء في حلب.وهكذا تمت مراقبة الأب بشكل مكثف ليلاً من قبل (أ) كونه يسكن بالقرب من منزله الكائن في منطقة (صلاح الدين) حيث شاهده في تلك الليلة يركب سيارته وبرفقته عمه المقيم في قريته (عنجارة) عندها اتصل بابن المغدور فوراً فعرف الأخير أن والده سيوصل عمه إلى القرية ويعود ليلاً..فذهب مع صديقه الثاني (ع) بالسيارة المازدا حتى وصلوا القرية متابعة لتحركات المغدور,وكان المقرر أن يقوم الصديق بإطلاق النار على المغدور أثناء عودته وحيداً إلا أنه تردد.. عندها أخذ الابن السلاح وبمجرد أن أصبح بمحاذاة المغدور أطلق النار عليه فانزلقت سيارة الأب من الطريق إلى الأرض الزراعية وفارق الحياة.. بينما تابع الابن طريقه إلى حلب...استعداداً لتقبل التعازي!!.
ما قبل الجريمة...
الجدير ذكره أن الشبان الثلاثة كانوا قد أخذوا السيارة المستأجرة قبل تنفيذ الجريمة إلى محل (فيميه) ووضعوا لاصقاً على زجاجها بشكل كامل حتى لا يظهر من بداخلها أثناء التنفيذ خشية أن يتعرف المغدور على والده إن بقي على قيد الحياة...وذلك تجنباً لفشل محاولة القتل كما حدث في المرة الأولى..
نعم..فقد تعرض الأب بتاريخ 22/3/2005 أي قبل ثلاثة أشهر فقط من قتله إلى محاولة قتل فاشلة وذلك الساعة (2,30) ليلاً عند خروجه من مطعمه وبنفس الطريقة..حيث انهالت عليه طلقات الرصاص من عمق الظلمة وهشمت سيارته لكن حكمة القدر أبت أن تنال هذه الطلقات منه بأذى..ولعلها كانت فرصة ثمينة لمراجعة الحسابات وتدارك غرق هذا الشاب بدماء أبيه..حيث أشارت التحقيقات إلى أن (م) هو من قام بهذه المحاولة..وبالتحقيق مع الأب آنذاك أفاد بأنه لا يشتبه بأحد وليس له أعداء..
في النتائج
الجريمة بلا شك حدثت في زاوية مظلمة عن عمق المجتمع..لكنها تمثل مفرزة غريبة عن نسيج هذا المجتمع وهذا ما يكسبها الغرابة فعلاً..ولحسن الحظ..إن الروابط الدينية والاجتماعية التي تحكم علاقاتنا بوشائج التراحم والتعاضد تدفعنا لتسليط الضوء على وقائع هذه الجريمة بكثير من الثقة بأرضية هذا المجتمع..والرغبة في استخلاص العبر والدروس الحياتية التي تؤكد انتصار الحق على كل النوازع الدنيوية الضعيفة..وبأسرع مما نتوقع...