كرد على الرومانتيكية وبهدف تجاوز مطباتها العاطفية الشخصية حسب ادعاء مؤسسيها (ليكونت دوليل، الأخوين جونكور، و فلوبير) وشكلت تحولا أعمق باتجاه ذاتية مثالية (أفلاطونية) قامت على العزل والفصل بين الظواهر المختلفة وعلى اعتبار الظاهرة المستقلة مكتفية بذاتها والفن على هذا الأساس يكفي نفسه بنفسه ولا هدف له إلا نفسه.
لقد لفت نظري في إطار متابعتي لنشأة الظاهرة ومراحل تطورها أنها لم تلقَ فقط انتقادات واسعة من مختلف أطياف واتجاهات القرن التاسع عشر بل لم تحقق أيضا حضور مهم في النتاج الفني لذلك القرن وإنما ظهر هذا الحضور بقوة في فنون ما بعد الحداثة في القرن العشرين. لفتني أيضا على الصعيد المحلي أن التشكيل السوري الذي بقي حتى الثمانينات من القرن الماضي متأثرا بالنزعة الإنسانية وبالقضايا الاجتماعية والوطنية والقومية على اختلاف وتنوع الأساليب شهد منذ التسعينيات جنوحا عاما وحادا نحو (الفن للفن) مع هبوب عواصف الثقافة المعولمة التي سرعان ما حجبت عن الفن والفنانين تلك النزعة وكل ما يجري في الحياة الاجتماعية وحكمت مساراتهم وبالتالي مسار الفن بالنمطية وإثارة الضوضاء العقيمة فكريا واجتماعيا ولكنها يجب أن نعترف ذ أنها ليست كذلك في البنى التشكيلية والقيم اللونية بل العكس, فقد شهدت الساحة التشكيلية تطورا هائلا في تلك المجالات فهل يمكننا نسب هذا التطور إلى الحضور المطلق لفكرة الفن للفن خاصة مع إلحاق مفهوم الحرية وسوية العمل الفني بتلك الفكرة؟من وجهة نظري أن التطور في القيم الجمالية كان سيحصل سواء بوجود فكرة الفن للفن أو بعدم وجودها واعتقد أن من الخطأ نسب تطور التشكيل السوري إليها وذلك للأسباب التالية:
أولا: لم تحقق فكرة الفن للفن حضورها في سياق تطور تاريخي طبيعي إنما تحقق ذلك بقوة سلطة المال والنقاد والفنانين العاملين في فلكه لخلو مضمون فكرة الفن للفن من أي رسائل معرفية واجتماعية قد تحد من هذه السلطة.
ثانيا: فكرة الفن للفن ليست نظرية جمالية متكاملة تملك بذاتها أسباب حضورها ولاالبنية الفكرية اللازمة لذلك بسبب الهشاشة والأحادية والخلط العشوائي غير الديالكتيكي بين وظيفة الفن وخصوصية العملية الإبداعية، ويفترض في حال توفر جدلية العلاقة بينهما ألا توجد الخصوصية إلا ضمن العام (بمعنى الوظيفة الاجتماعية) ما ينفي الفكرة من أساسها.ثالثا: أعمال رواد الفن التشكيلي السوري التي حملت رسائل اجتماعية لم تكن مقيدة ولم تنقصها السوية الفنية.رابعا: لأن إرجاع نجاحات الفنانين السوريين وحضورهم وتطورهم إلى فكرة جمالية ناقصة هو استخفاف بقدراتهم الإبداعية الذاتية وإجحاف بحقهم وحق أعمالهم.أما إلحاق مفهوم الحرية بمقولة الفن للفن فهو تركيب مصطنع يبرره مؤيدوه بالحرص على نقاء لحظة الدفق الإبداعي وعدم تشويشها بأي قيد وعدم مسخ جماليات الأشكال لحساب وظيفة الفن الاجتماعية ويسقط هذا التركيب في حال كانت الوظيفة الاجتماعية للفن خياراً شخصياً للفنان المتمكن وليست توكيلا إذ تصبح فكرة الفن للفن هي القيد على إبداعه لأنها ببساطة تحرمه من حقه في التعبير بحرية عما أثار انفعالاته وحرضها على أرض الواقع الاجتماعي.