فشعر العامود العربي والذي يقوم على وحدة البيت المكتفي بذاته والذي كان يعتبر عيباً أن يتجاوز المعنى البيت للبيت الذي يليه أو يحتاج للبيت الثاني لإكمال المعنى, يدفعنا للقول: إنّ الشعر العربي عرف شعر الومضة بمكان ما!؟ رغم مافي مقولة الومضة من تجني؛ لأنها لاتؤسس إلا قياساً على طول هيكل شعري آخر!؟ وما سبق قوله, تأتى من انتشار ما يشبه شعر الهايكو وحتى هنا تغدو المشابهة مغلوطة, فترجمة “هايكو” تعني جملة ممتعة مفيدة وهي أقرب للروح اليابانية وتجلياتها الخاصة ولكن....!؟.
مقاطع صغيرة, كضربة ريشة, انطباعية, تأخذ من الرسم الانطباعي ضروراته في السرعة ووضع الإحساس بشكل حدسي, مع سخرية وتهكمية مبطنة, بالإضافة إلى تقشف عن المحسنات البديعية التي اشتهر بها الشعر العربي, حيث المقطع يأتي جماله من عورته الحسية؛ النقل المباشر للتأمل بعيداً عن تخميره واستنارته, يكاد القول إذا صح يكمن في العودة للقاء الأول مع الوجود.
هل نستطيع التكلم عن “ هايكو” عربي!؟:
السؤال يستدعي: إنّ سياق القول ليس وليد اللحظة بل هو نتاج سيرورة وعليه تبقى تجربة “ الهايكو” في لغة الضاد وصيرورتها الزمكانية مع فعل المبدِع وتذوق المتلقي, قضية تُترك للزمن ليصقل حوافها وقبل ذلك, للتجربة, الحق بالوجود وقياس جودتها قضية جدلية.
“ هذا النحل/ يجمع رحيقه/ من زهر الخشخاش” المفارقة هنا ليست مقصودة لذاتها, لكي تقيم بنية جمالية بل وجودها يخدم التهكم والسخرية من العلائق الجمالية السائدة, فالنحل والرحيق والزهر, تثليث, يحتفل به ويكاد يكون مقدساً, فتأتي كلمة “ الخشخاش” فتأرضنه وتحرره من الانطباعات المؤدلجة, لتعيده للحظة التماس الأولى, تأملية معاكسة تدفعنا للسؤال عن ذات السؤال القار فينا والذي حفظنا أجوبته غيباً.
“ في عتمة صالة المسرح/ قتل عطيل ديزدمونه/ لم يتدخل أحد من الجمهور..” المقطع قبل أن يتدخل النقاد والمفتشون وقبل أن ترفع البصمات وسؤال شكسبير والبحث عن عقدة أوديب ودراسة اسم عطيل دلالياً وشعور التطهير الذي حصل عليه الجمهور والتأويلات والتفسيرات. المقطع مقولة, شاهد جاهل أو طفل وبالأحرى, تهكمية كبيرة, من أنّ الجمهور القاتل الحقيقي لأنه كمراقب خارجي, كان يعرف أن “عطيل” سيقتل “ديزدمونه”.
بعيداً عن ما سبق يحمل المقطعان, روح “ الهايكو” فالشاعر لؤي ماجد سليمان, قدم المشهد بألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق إذ وصف الحدث بعفوية ودون تفكير كما يفعل طفل, فقد صبّ انطباعه بسلاسة. إنّه الإحساس نقي من الشعور!!.
ما الذي يلزم لنكتب «الهايكو»؟:
العلاقة مع الطبيعة هي مصدر « الهايكو» والطبيعة هنا لا تعني إلا العلاقة دون وساطة حتى اللغوية وهنا نعود لموضوعة الرسم الانطباعي, فالرسام الذي يخرج بعدته للطبيعة والذي لا يعرف مسبقاً نوعية الطقس وتحولاته يكون في سباقاً مع الطقس من شمس ومطر وريح ليضع ألوانه المائية, قابلاً, نزق اللون المائي وتشربه للتغيرات, فيرسم الإحساس, كالشاعر الذي ينظف اللغة من حمولاتها ويكتب كأنّه للتو اكتشف اللغة.
« فتشت عن القلم كثيراً/ حتى ضيعت الفكرة / وجدته في هذا المقطع اللماح, نجد بوصلة الهايكو؛ إنها الجدة وقراءة الوجود في لحظته وفي آنه, فالهايكو لم يقف عند «باشو» خزافه الأول بل كان طوعاً لصلصال اللحظة وعلاقة الشاعر بها وهكذا فأن طبيعة « الهايكو» بكونه قراءة الحواس الخمس قبل أن تتم معالجتها بالشعور والعقل المتخمين بسياقات تحرف الإحساس عن جوهره.
لفافة الوقت:
ديوان للشاعر لؤي ماجد سلمان, مكتوب بالطريقة التي هناك تعارف عليها غير مقنن أي الومضة بانتماءاتها العديدة من كل مشارب الشعر العالمي لكن في المناصات التي وردت في الديوان من ذكر شاعر الهايكو الياباني «باشو» بالإضافة إلى جزء من الديوان معنون«هيروشيما فصل القتل» مع مقطع «باشو يا عرّاب قصائدي القصيرة/ متى ستكتب قصيدتك الطويلة/ عن هيروشيما القدس؟» استدعى المعالجة السابقة.
لا ريب إنّ لؤي كان يحيق به خطران؛ الأول : الذائقة الغارقة في آليات تلقي تختلف عن تذوق شعر «الهايكو» والثاني: إن تقمص روح الهايكو, لن تكون باستدراج هيكليته فقط بل بالتنصل من السياق اللغوي والمعنوي لآليات اشتغال اللغة العربية وهذا جعل لؤي ينوس بين إشراقات من روح «الهايكو» والإكراهات التي طوعها لؤي ليقدم هايكو بنكهة القهوة العربية.
مقاطع منتقاة من الديوان :
«أكره أن أغتابك/ حتى ..../ في حنيني إليك» – عندما يراودنا الموت.../ عن نفسه/ لماذا يداهمنا الخجل – «لو سمع الفراهيدي» قهقهة كعبك/ لصنع بحراً جديداً من العروض/ ولسقط الحصان عن القصيدة.
ليس لزاماَ أن نكتب الهايكو كما يكتبه اليابانيون بل كما ينبغي للشعر أن يكون وهذا ما فعله لؤي .
لفافة الوقت ديوان شعر لؤي ماجد سلمان صادر عن دار بدايات 2012
Bassem-sso@windowslive.com