بالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي لفت التجربة المسجلة هنا عن مخرجين يتمتعان بشهرة عالمية يتعاونان لإخراج فيلم دون أن يستطيعا التواصل بالكلام، تأتي مذكرات المخرج فيم فندرز لتضفي دفقاً آسراً على عملية إخراج الفيلم يفوق المعتاد، فالسكتة الدماغية التي أصابت المخرج الكبير مايكل أنجلو انطونيوني خلفت آثارها على مهنته الإخراجية ذائعة الصيت وتركته بالكاد قادراً على الكلام، ولكن في فترة التسعينيات بفضل دعم الممولين الملتزمين والزملاء المحترفين، استطاع انطونيوني تولي دفعة إخراج (ما وراء السحاب) الفيلم الذي استند إلى عدد من القصص القصيرة والاستكشاف المأخوذة من كتابه المنشور في الثمانينات، كان قد وافق المخرج فيم فندرز على مؤازرة الفيلم من خلال إخراجه لبعض مشاهد الربط ومساعدة انطونيوني أثناء التصوير، يوثق هذا الكتاب يوميات العمل التي كتبها فندرز بعناية وصراحة، مورداً المحطات الممتعة والمشاكل التي عاشها أثناء تعاونه مع المايسترو الشهير في ظل تلك الظروف الاستثنائية، فيم فندرز هو مخرج لعدد من الأفلام التي أصابت شهرة منها (ملوك الطريق 1976 وباريس تكساس 1984 وفندق المليون دولار في عام ٢00٠).
فيم فندرز يحكي لنا في مقدمة كتابه عن لقائه لمايكل أنجلو أنطونيوني للمرة الأولى في مهرجان كان عام 1982 حيث كان يعرض فيلمه (هوية امرأة) حيث نال فيلم انطونيوني الجديد آنذاك إعجابه، وكجزء من فيلم وثائقي كان فيم فندرز يعده حول تطور اللغة السينمائية، قام بدعوة جميع المخرجين الذين حضروا المهرجان وقتها ليتحدثوا أمام الكاميرا عن وجهة نظرهم حيال مستقبل السينما، كثيرون لبوا الدعوة من بينهم ستيفن سبيلبيرغ وجان لوك غودار وأنطونيوني المخرج ترك فيم فندرز يذكر كيف ترك كل مخرج في الغرفة ليختلي بنفسه مع جهاز تسجيل وشريط وكاميرا وبعض الإرشادات المختصرة، مفسحاً لهم المجال ليصيغوا كما يشاؤون إجاباتهم على السؤال الذي وجهه إليهم، حيث يمكن أن تكون تلك الإجابات قصيرة، أو إذا رغبوا كان بإمكانهم استنفاد بكرة الفيلم كاملة، أي يمكنهم التكلم لمدة عشر دقائق تقريباً، بعدما أنهى فيم فندرز تنفيذ فكرته أطلق على الفيلم (الغرفة 666) تيمناً برقم الغرفة في فندق المارتينيز التي سجلت فيها جميع المقابلات وكانت هي الغرفة الأخيرة المتاحة في كان آنذاك.
إن أكثر ما أثار إعجاب فيم فندرز من بين تلك المقابلات هو ما قاله مايكل أنجلو انطونيوني حول مستقبل السينما ولهذا تم إدراجه كاملاً في الفيلم دون أن يجرى عليه أي تعديل بما فيها تلك اللحظات التي أنهى فيها مايكل أنجلو كلامه ومشى باتجاه الكاميرا ليوقفها عن العمل.
وهذا ما قاله: (صحيح أن هناك خطراً حقيقياً يحدق بالسينما، ولكننا يجب ألا نغفل الجوانب الأخرى للمشكلة فتأثير التلفاز على عادات المشاهدة لدى الناس وتوقعاتهم وخاصة بالنسبة للأطفال بات واضحاً.
من المرجح أن تحل أشكال جديدة من وسائل التصوير كالشريط المغناطيسي مكان الوسائل التقليدية التي لم تعد تلبي احتياجاتنا، وهذا ما أشار إليه سكورسينري بأن بعض الأفلام ذات الألوان القديمة بدأت بالتلاشي ويمكن للالكترونيات أو الليزر أو غيرها من أدوات التكنولوجيا التي لم تكتشف بعد أن تقدم حلاً لمشكلة تزايد عدد الجمهور المطلوب امتاعه من يعلم؟
أنا لست متشائماً
يتابع انطونيوني بشأن نظرته لمستقبل السينما: (أنا لست متشائماً، ولطالما كنت كذلك الشخص الذي حاول التأقلم مع أشكال التعبير أياً كان نوعها لمقدرتها على التعامل بالشكل الأفضل مع العالم المعاصر فقد استخدمت الفيديو في أحد أفلامي كما جربت الألوان ورسمت الواقع وكانت تلك التقنيات في حالتها الأولية إلا أنها أظهرت بعض التقدم.
إن الحديث عن مستقبل السينما ليس بالأمر السهل، فقريباً ستكون أشرطة الفيديو ذات الدقة العالية في بيوتنا ومن المحتمل أن تنتفي الحاجة لدور السينما بعد ذلك.
في فيلم (الصحراء الحمراء) كنت بالفعل أبحث في مسألة التكيف، أي التأقلم مع التقنيات الجديدة أو مع الهواء الملوث المرغمين على استنشاقه، حتى أجسادنا يمكن لها أن تتطور، ومن المرجح أن يحمل المستقبل قسوة لا نستطيع تخيلها بعد، ها أنا قد بدأت أكرر نفسي الآن، فأنا لست فيلسوفاً، أو خطيباً، أنا فقط أفضل العمل وتجربة الأشياء على الحديث عنها، وإحساسي يقول: إنه لن يكون صعباً تحويلنا إلى أناس جدد يحسنون استخدام التقنيات الجديدة).
نقرأ في يوميات فندرز هذه لحظات التصوير الصعبة التي قادها انطونيوني رغم إصابته بالجلطة الدماغية والتي دمرت مركز تكوين الحروف والتهجئة في دماغه، ففقد قدرته على الكتابة والكلام حيث آثرت على جنبه الأيمن وكان فقط يستطيع الرسم بيده اليسرى، وهذا ما كان يفعله كوسيلة أخيرة يلجأ إليها عندما يحاول توضيح مقصده لنا: (بدت الرسوم التي تخطها يده اليسرى مدهشة بدقتها بالنسبة لرجل اعتاد الكتابة بيده اليمنى، وأصبحت وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها في التواصل وخاصة عندما بدأ التصوير الفعلي للفيلم، لقد أذهلتني طريقة مايكل أنجلو في تقبله لإعاقته وصبره الذي طالما تمتع به حيال الآخرين إلى أن تفهموه في النهاية فإذا ما فشلت جميع التخمينات والاقتراحات المختلفة في مقاربة المعنى الذي يبتغيه ولم نستطع فهم ما يحاول قوله لنا، لم يكن ييأس بل يشرع بالضحك ضاغطاً بأصابعه على جبينه وكأنه يقول (يا لكم من أغبياء) وفي النهاية أحد ما سيتمكن من التقاط الفكرة من خلال الرسم أو التلميح الذي كان قد استعصى علينا طويلاً..).
يوميات مثيرة بتفاصيل يغنيها الكاتب على طريقته حتى يصل بنا إلى قاعة العرض حيث يفتتح الفيلم بعرضه الأول في الثالث من أيلول 1995 في البندقية.
من الكتاب:
اليوم السادس والأربعون للتصوير: الجمعة 3-3-1995:
في آخر يومين للتصوير بقينا في شقة أولغا في باريس إلا أنني لم أستطع أن أمضي كثيراً من الوقت في الموقع بسبب التحضيرات لتصويري. بشكل عام حضرت فقط من أجل البروفة السريعة الأخيرة وأثناء التصوير فقط، لقد كانت الشقة صغيرة جداً، بقي أن نأخذ مجموعة لقطات فوتوغرافية في موقع التصوير وبذلك ينتهي الفصل الرابع، سيأخذ طاقم العمل إجازة لمدة يوم ومن ثم نعود إلى فيرارا حيث سيصور مايكل أنجلو المشاهد المتبقية من الفصل الأول، ونباشر العمل في تصوير الجزء الخاص بي، لكن قبل ذلك كان علي القيام بمهمة الاستطلاع في إيكس. زرت جان مورو في وقت متأخر من بعد الظهر لأناقشها في مشهدها مع مارسيلو ماستروياني ولأنتقي معها الزي الذي سترتديه، بعدها حزمنا حقائبنا، وأعقب العمل عشاء جمعنا مع فيلزبيرغ المنتج الألماني المشارك.
الكتاب: يومياتي مع أنطونيوني / تأليف: فيم فندرز، ترجمة: منى سويد، صادر عن المؤسسة العامة للسينما، قطع متوسط في 228 صفحة.