تقدم من خلالها خطاباً عن الآخر يعزز معادلة القوة/ المعرفة الخاصة بها.
في المقابل، فإن تأكيد الشعوب الخاضعة للهيمنة الغربية (وبوصفها شعوباً غير قابلة للإدماج) على تراثاتها الثقافية الأصلية، واسترجاع تواريخها المكبوتة، هو الأهمية الحاسمة التي تحظى بها هذه الشعوب. ويمكن لعلاقات الاستلحاق والإدماج، غير المبنية على التراضي، أن تحدث صدمة تاريخية.
تهدف سياسات الهيمنة الغربية إلى تعيين للهوية الأخرى، ملحقة بالهوية الغربية وتابعة لها. وهذا في حد ذاته نوع من إلغاء التخاطب والفعل والوجود حتى. إنها الحركة الفاعلة في تضمين الوجود الأخروي كتابع وملحق لا غير.
في رواية محبوبة لتوني موريسون، تقوم الأم سيثي بقتل ابنتها محبوبة كنوع من الانتقام من المحتل والقامع، ويظهر صوت محبوبة (أريدك أن تمسني في ذلك الجزء الداخلي مني وتدعوني باسمي)، وبالطبع فإن السبب الذي يدفع شبحاً لأن يرغب في مثل هذا التحقق هو سبب واضح، أي البحث عن هوية متحققة، حتى بعد فناء الجسد. وتعرف موريسون أن الهوية التي تناضل من أجل تثبيتها وتأكيدها، لا يمكن لأحد أن يلغيها، حتى ولو بعد الموت.
إن العنصرية الغربية الكولونيالية تحاول أن تلغي الاختلافات الثقافية، وتضع في مواجهتها الأصول العنصرية والتفوق العرقي الغربي. وتلك الأصول العنصرية - حسب بينيديكت أندرسون - تكمن في أيديولوجيات الطبقة العتيقة التي تنتمي إلى ما قبل تاريخ الأمة الحديثة الأرستقراطي. فالعرق يمثل لحظة لاتاريخية قديمة تقع خارج حداثة الجماعة.
في حالة من التوتر القائم بين فكرة الوجود التاريخي لأي أمة غير غربية، وفكرة الهيمنة الغربية العنصرية، تهرع الأمم التي كانت واقعة تحت الظلم الإمبريالي الكولونيالي للدفاع عن الاختلاف الثقافي، وعدّه أساساً للخطاب الحديث. ذلك الخطاب الذي يقوم على منطق التعايش والتمازج الثقافي في مقابل سياسات الهوية الغربية المتصلبة والجامدة.
ونحن - كعالم ثالث - لانزال نعيش إرهاصات التقدم والتحديث، ونتشاجر مع أنفسنا (قبل صراعنا مع الأفكار التنويرية للعالم الحديث) في فهم دفق الحياة الحديثة، مستخدمين خطاباً مرتبكاً وغائماً أحياناً، حول الحداثة وملحقاتها وحول التراثات الأصلية.
هناك استهلاك ثقافي شرقي لا يخفى على أحد، وهناك أيضاً تطور لامتكافئ مع هذا الاستهلاك، وفي المقابل تعثر في إعادة بناء الذات وابتكارها المتواصل، وهذا بدوره يؤدي - دون أن ندرك ذلك - إلى الانصياع لعلاقات الاستلحاق والتبعية، والدعوات المستشيطة والغزيرة للحفاظ على التراثات الهائلة الغنية لثقافتنا ولموقعنا الثقافي العريق في العالم.
يتحقق الاختلاف الثقافي، عندما يصبح من الممكن للغرب أن يقبل بالوجودات المحلية للعالم الآخر، وعندما يحقق الشرق ذاته بالابتكار المتجدد للذات، بالانشطار الدائم للذات، الذي هو شرط الحرية والتقدم. إن تكرار كلمة مثل «الرعب، الرعب» (في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد) التي يهمس بها كورتز على نحو مخيف، تعبر عن الصلة الكونية الشاملة بين البلاد المحتلة وبين المتروبوليس الغربي، وهي تشكل ركناً أساسياً من أركان أيديولوجيا الإمبريالية. ويدرك كونراد عبر كلماته السحرية، مدى الصعوبة في تغيير الخطاب الغربي تجاه الآخر. مع أن الغربي يدرك أنه وصل إلى مأزق ثقافي وبنيوي، وهذا ما يفسره فرانز فانون بقوله: (توجد، من جهة أولى، ثقافة يمكن أن نتبين فيها خصائص الدينامية والنماء والعمق، في حين نجد قبالتها - في الثقافات الكولونيالية - ملامح وغرائب وأشياء، لكننا لا نجد بنية أبداً).
تعمل الثقافات المحلية على توطيد أسس أخلاقية للتواصل مع الآخر، تأخذ ما تجده مناسباً لتقدمها، وتترك ما لا يطورها. تحترم ثقافات الآخرين، وترى فيها أساً حميداً لوجودها هي في البداية ووجود الآخر أيضاً. ويعرف المثقف والمفكر والقارئ العادي أن لا أحد يعيش منفرداً، ولا يمكن لثقافة أن تبني نفسها بنفسها على أسس صحيحة ومتينة.
الاختلاف الثقافي يبتعد كل البعد عن السيطرة الثقافية، وأي محاولة لتأكيد سلطة ثقافية وتفوق ثقافي، ينحدر إلى مستوى الجدال اللاأخلاقي، ويسقط باتجاه العنصرية المتوحشة والهمجية.