ذاك الذي أحالهُ إلى حالمٍ عندما رأى «النجوم تحاكي القمر» و إلى مغامرٍ عندما ركب البحر وعايش صراع «الشراع والعاصفة». أيضاً إلى حكيمٍ عندما تغلغل في تفاصيل الحياة ففاجأه ما حصل بين «عاهرة ونصف مجنون», وغير ذلك مما جعل حياته مُشبعة بذكرياتٍ رغم أنها كانت أشبه ب «المستنقع» إلا أنها سكنته ذات ضوءٍ لم يكن إلا ضوء «المصابيح الزرق» وفي الوقت ذاته الذي كان فيه «الثلج يأتي من النافذة, لتتحوَّل ذاكرته بعدها إلى مستودعٍ تتراكم فيه «بقايا صور»..
ببساطة.. هو أديبٌ مفطومٌ على جنون العشق.عشق الحياة بكلِّ ما فيها من غرائبٍ ومغامرات.. أيضاً, عشق المرأة, وبكلِّ ما تنذر به صفاتها من تناقضات والأهم.. عشق البحر.. المنبع الأول لإلهامه, بل العالم الخاص الذي تعمَّد به والذي كتبه على شكلِ روائعٍ مبللة بكلِّ ما جعل منها جريئة وواثقة وواقعية وحالمة ومشاكسة وشاسعة وعاصفة بأنواع التحديات..
كل هذا, يدل على أن «حنا مينة» أديب من زمن الوجع الإنساني.. من زمنِ البحث عن مدادٍ أبيض الأمل, ومن أجل أن يكتب به ما أراده ليسدُّ حاجة الباحثين عن لحظةِ سعادة تردُّ لهم شيئاً من جدوى الفرح..
إنه أحدهم.. أحد هؤلاء الذين تقصَّد أن يكتب كفاحهم وصولاً إلى لحظة تنتشي فيها أرواحهم, وهو ما أكَّده رافضاً أن يتحوَّل قلمه إلى سلطانِ كلام, لطالما قال عن نفسه:
« أنا كاتب الفرح والكفاح الإنسانيين, فالكفاح له فرحه.. له سعادته.. له لذَّته القصوى عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداءً لحيواتٍ الآخرين, هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً, لكنك تؤمن في أعماقك بأن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والذل, جديرٌ بأن يُضحَّى في سبيله, ولمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل والسير بهم نحو المعرفة. هذه التي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى, نحو الغدِ الأفضل..
لأجلِ كل هذا, اختار «حنا مينة» أن يكون سندباد الترحال. يحطُّ أنى شاءت له حواسه اللاقطة للمغامرة. تماماً كما اختار أن يكون بحارا ًيعارك الموج الصاخب بعواصف مفرداته. ذلك أنه والبحر وجهان لعمقٍ واحد.. لغموضٍ واحد.. لاتِّساعٍ واحد.. لهدوءٍ وجموح واحد.. لعشقٍ واحد..
بيدَ أنه تصارع مع البحر طويلاً, وبقلمه الذي نثر مداده أسراراً باح بها البحر, جاعلاً من ملوحته وجرأته وسرِّيته وعمقه وعشقه وجبروته, مفردات لا تخلو منها أعمال «مينة» الروائية..
هذا هو «حنة مينة» الأديب الذي أراق عمره مرتحلاً من شقاءٍ إلى شقاء, ودون أن يركن لجبروت الحياة. تلك التي أخضعها إلى عوالمه الإبداعية. العوالم التي خاضها ثائراً.. متمرِّداً.. حالماً.. شجاعاً وإلى أن عتَّق خلاصة ما لملمه منها, عشقاً هو المشتهى لديه وأيضاً لدينا وإلى ما شاءت شطآن الأدب تجذب عشَّاق الكلمة السحر إلى عوالمها اللانهائية..