تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بحّار الرواية الشجاع من زمن اللاذقية الجميل

ثقافة
الأثنين 12-3-2012
سجيع قرقماز

الأيام الملونة بزرقة البحر، بصفائه، عنفه، كرمه وشحه، أيام ٌ جميلة ٌ لا تزال جدران وأزقة اللاذقية تعبق بها، بطعمها، وبرائحة ليمونها، كبارها: الذين بقوا، والذين غادروا لكنهم بقوا، بقوا في قلب اللاذقية،

وعلى لسان كل سوري يرى في زرقة البحر وصفائه أملا ً لمستقبل مزهر بدأ منذ مليون عام في ستمرخو، واستمر في جبالنا الشماء مع البدوي، في أوغاريت مع جبرائيل سعادة، راميتا والمحمودي، ثم البحر حنا مينة.‏

كتب حنا مينة لجبرائيل سعادة يقول: في اللاذقية بحران بحر الماء، وبحر الآثار فإلى بحار الآثار قبطان مركبها العظيم الصديق العزيز جبرائيل سعادة مع كبير محبتي وتقديري.‏

وأكتب لك صديقي العزيز حنا: رغم وجود هذين البحرين، ألست أنت البحر ؟ أنت الطروسي: كان الطروسي (بطل الشراع والعاصفة) يقف وراء الدفة على ظهر الشختورة التي شقت طريقها وسط النوء متوجها بها نحو مدخل الميناء وتذكر ما قاسى فأطبق جفنيه وفكر: «وصلت أخيرا إذا ً».‏

وظل حنا مينة (خالق الطروسي) يقول في ثمانينات عمره: «لم أصل بعد».‏

وهو الذي ظل يردد في أكثر من مكان:‏

معي وحدي كان البحر بحراً‏

أنا البحر فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت..‏

وأردف قائلا ً:‏

روح البحار لا تموت‏

بل تنتقل من الأب إلى الابن‏

يقول حنا عن أدب البحر: تريدون معرفة البحر؟ ابحثوا في رواياتي، لا في الأدب العربي القديم أو في الأدب العربي الحديث، فهما، قديماً وحديثاً، ليس فيهما ما يسمى «أدب بحر ».‏

كان البحر دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة ٌ بمياه موجه الصاخب، لي ثماني روايات عن هذا الأزرق الواسع، لذلك أسموني «أديب البحر » وأنا كذلك، شاء الحساد أو كرهوا!‏

لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي إذا نادوا: يا بحر!‏

ثم تساءل على طريقة يوحنا: أسألكم: أليس عجيبا ونحن على شواطئ البحار ألا نعرف البحر..‏

ألا نغامر والمغامرة احتجاج..‏

البحّار لا يصطاد من المقلاة!‏

وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة.‏

إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء!‏

الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر، لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب.‏

أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله،احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي:‏

أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟!‏

أين، أين؟! هناك البحر وأنا على اليابسة؟!‏

تقول:‏

- أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟!‏

ونقول:‏

- مهما كان الشام حبك ؟ تظل اللاذقية هواك‏

ويقول حنا: العمل في البحر، أفادني في كتابة «الشراع والعاصفة»، والعتالة في المرفأ، اتاحت لي أن اكتب «نهاية رجل شجاع»، والاختباء في الغابات،، وفر لي المادة لكتابة «الياطر» التي ستغدو أشهر رواياتي، منذ ثلاثين عاماً» ولم أكتب جزءها الثاني بعد.‏

وأقول لك صديقي العزيز حنا:‏

أنت الجزء الذي لم تكتبه من الياطر، أنت الطروسي المنتصر « لقد وصلت ».‏

يتابع البحار الشجاع: والدتي مريانا ميخائيل زكور، ستقول لي حين أكبر: أسمع يا حنا! أنت ابن الشحادة، فقد شحدتك، منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها، كانت تعاقبني، فأرزق ببنت، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع، الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنتُ، قبل ذلك، أبكي من الحزن.‏

وأسأل الريح، بكل ما في الابتهال من ضراعة، ألا تنطفئ الشمعة التي كنتها، حتى لاأفجع فجيعة تودي بي إلى القبر، وشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تعيش في قلب الخطر، وهذا الخطر لازمك حتى الشباب، وعندها تحول من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، هذه التي أبكتني بكاءً مضاعفاً، خشية ألا أراك، وأنت تعطي نفسك للعذاب في سبيل ما كنت تسميه التحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية!.‏

ويقولون عنك: اتحاد الكتاب المصريين عندما منح جائزة الكاتب العربي التي يقدمها للمرة الأولى للروائي السوري حنا مينة أنه قدمها لحنا: رائداً عربياً كبيرا في فن الرواية.‏

واعتبر أن (حنا مينة) هو صاحب أشجع وأعمق سيرة ذاتية في الأدب العربي. متمثلة في ثلاثيته الملحمية الكبرى: (بقايا صور) و(المستنقع) و(القطاف)، والتي جاءت بعد سلسلة رواياته البحرية الفائقة الجمال، كما اعتبره: الأب الروحي لسلالة الرواية السورية.‏

ومن أنت ؟ هل تعرف ؟‏

أنا خريج جامعة الفقر الأسود.‏

الفقر نوعان: أبيض كالذي أعيشه الآن، وأسود كالذي عشته في طفولتي، حين كنت جائعاً، حافياً، عارياً.‏

أنا خريج جامعة الفقر الأسود.‏

أو لم يكن لي خيار، في دخول جامعة سواها، أو حتى مدرسة إعدادية، كي اعرف أن اكتب عن الجامعات والمدارس.‏

حرصت أمي، على إدخالي المدرسة (كي يتعلم «فكّ الحرف»)، وأن أصبح، بعد فكّه، كاهناً أو شرطياً.‏

آمال الأم خابت كلها، فلم ارتسم كاهناً، ولادخلت سلك الشرطة، أو قدّر لي أن أكون راعياً، لقد قلت، صادقاً، إنني ولدت بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ.‏

وماذا بعد:‏

بلغت الثمانين من عمري، في 9 آذار 2004م، وحتى هذا التاريخ كنت أخدع نفسي، أو تخدعني نفسي، فأقول للناس، وللقراء الأعزاء أيضاً، إن السبب في شهرتي كروائي، وسعة انتشاري في وطني العربي، وفي العالم كله، مردّه إلى الحظ، فأنا محظوظ جداً، يقرؤوني الفقير والأمير.‏

و كيف هي علاقتك بالله، هل أنتما صديقان ؟‏

- لا، زوجتي صالحة وهي تدعوه من أجلي.‏

لم أدخل خمارة في حياتي، هي مرة وحيدة كانت هناك مطربة اسمها نهاوند، في مقهى الكروان وراحت تغني واحدة من أجمل الأغنيات التي أحب:‏

يا فجر لما تطل ملون بلون الفل‏

صحي عيون الناس ومحبوبي قبل الكل‏

ومن أنت ؟‏

بحار أنا، والبحار الصادق، في شرف اللجة، وعلى اسمها، يجهد كي يمحو من ذاكرته، من تاريخه، لحظة كان فيها جباناً،‏

ولن أزعم أنني كنت في الشجاعة رباناً، وإنني، في عواصف الدهر، بحراً وبراً، كنت الذي لا يخاف..‏

بلى! خفت، غير أنني صمدت لخوفي، تغلبت عليه، وهذه هي الشجاعة في قاموسي، وقد عشت، عمري كله، مع المغامرة على موعدٍ، فحيث تكون هي، أكون أنا، رأيت الموت ولم أهبه، فالموت جبان لمن ينذر له نفسه،وها هي الثمانون تضعني على منزلقها، والموت الذي أسعى إليه يفر مني.‏

همك الدائم: الموت نوم،ثم لا شيء، وأنا أريد أن أنام نومة ً شكسبيرية ً، وأدعو الله أن يحررني من هم الكتابة، حملت صليبي منذ ستين عاماً، ولم أجد من يصلبني لعلني أستريح.‏

- وما هي وصيتك الأخيرة:‏

أكتبُ وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعتُ من الدنيا، مع يقيني أن لكل أجلٍ كتاب.‏

أرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفوني، بعد مغادرة هذه الفانية.‏

كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولم أزل.‏

لاعتب ولاعتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله لا على الحظ، بل على الساعد فيدي وحدهما، وبمفردهما صفقت، وإني لفي شكر هذه اليد، وبالشكر تدوم النعم.‏

أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين  من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب عليّ، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.‏

- لكن، هل تغلق دائرة البحر ؟‏

و هل يحد شيءٌ من جريانه، ولو كان الموت ؟‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية