لم يدرك الفتى (حنا) أن الزمن وحده قادر على تغيير نظرته لما عاش من أحداث.. و عاين من مشاهدات في حي (الصاز).
بعد نضج و وعي.. و بعد خبرة عمر.. و حين يتأمل ذكريات الماضي.. الفائضة وجعاً.. عوزاً.. فقراً.. و ألماً.. سيدرك مكتشفاً ماهية الجمال الكائنة في قلب كل تلك البشاعة.
البعد سيوفر له حرية النظر إلى الماضي.. الالتفات بأريحية إلى زمن بائس..
والتالي.. الالتفاف على سواد أيام الطفولة.. تطويق قتامتها عبر لعبة الأدب.
في عمق القبح الذي عايشه الفتى (حنا).. ثمّة جماليات صاغها قلم الروائي (حنا)..
و بين هذا الأول.. و ذاك الذي صار إليه.. يمتدّ خيط الزمن جامعاّ سيرة فرد تتماهى و سيرة مكان..
فكيف تتشابك تلك السير.. وتتقاطع حكايا الأفراد مع تفاصيل المكان والزمان..
و هل ما رواه حنا مينه في (المستنقع) لا يعدو كونه سيرة ذاتية.. أم هي في وجهها الآخر الأكثر عمقاً سيرة مدينته الأولى (اسكندرونة).. ؟
ثم ما هي الحدود الفاصلة بين الذاتي و الموضوعي.. بين الخاص و العام.. الشخصي والغيري..؟
في (مستنقعه)..
تفيض ذاكرة الروائي بسيل من ذكريات و توصيفات لكل ما تختزنه مشاهدات الطفولة. تدهشك تلك القدرة الوصفية التي تأتي على ذكر أدق الأمور.. و كما لو أن قلم (مينه) يرسم لوحات.. تكاد تتجسد أمام عينيك.
ذاكرته ذاكرة مكان تجوس في كل ما له شأن و صلة بذاك (المستنقع) الذي يلعب دور البطل (اللامرئي).. الفاعل و المحرك – و لو نسبياً – للأحداث..
على أقل تقدير.. في دائرة و محيط ذاك المكان الذي عاش فيه راوي القصة (البطل المرئي).
وراء كل ذلك يتخفى صيد الروائي الأهم و الأكبر.. ويُظهر براعةً بضبط سير أحداث تعكس مصائر أفراد، على التوازي مع سير أحداث تعكس مصير مدينة بأثرها.
(المستنقع) تروي منعكسات الأزمة الاقتصادية التي امتدت ما بين عام 1933م إلى عام 1939 م.. وما نتج عنها من زيادة في البطالة و الفقر.. وتسرد كيف تمّ اتباع سياسة التتريك في اللواء واقتطاعه من جسم سورية ليصبح تركياً.. ونزوح عائلة الروائي من اسكندرونة إلى اللاذقية..
وهو مايعيد التأكيد على أن بين صفحات أي رواية ثمة تاريخ غير رسمي.
ويبقى السؤال الأهم..
في كتابة السيرة.. ما الذي يسعى إليه الروائي..
هل يبتغي خطّ ذكريات و حسب.. أم يهدف توثيق مرحلة.. أم هي محض محاولة للتأكيد على حقيقة التصالح مع ماض يغص بمرّ الذكريات.. لأنه أصبح ماضياً بعيداً.. وعلى رأي مينه (الجمال لايوجد إلا في البعيد).