تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أثر الصورة الشعرية في البيان

ملحق ثقافي
2018/12/18
سلام الفاضل

لا شك أن أجمل صورة شعرية هي التي يأتي بها الخيال الإنساني بكل طاقاته وانفعالاته لجلاء فكرة شعرية تبرز في أحاسيس الشاعر وعقله، فيعمد عبر مفرداته إلى تحويلها نصاً مكرساً يعيش من خلالها حلمه المشتهى.

وهذا ما كان من أمر شعر طرفة بن العبد الجموح، والحافل بالصور التشبيهية الأخاذة، واستعارات العباس بن الأحنف ذات الأثر العميق في عشقه وغزله والتي يحاول الكتيب الذي بين أيدينا اليوم (أثر الصورة الشعرية في البيان... شعر طرفة والعباس بن الأحنف أنموذجاً)، تأليف: د. خلدون سعيد صبح، والصادر مؤخراً ضمن سلسلة “قضايا لغوية” عن الهيئة العامة السورية للكتاب، يحاول عبر ما جاء فيه من دراسة لأشعارهما الولوج إلى عالمهما التصويري بمنهج تحليلي.‏

بلاغة التشبيه عند طرفة بن العبد‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

يعد التشبيه من أكثر الفنون البيانية استعمالاً، فهو من أصول التصوير البياني، ومصادر التعبير الفني، ففيه تتكامل الصور، وتتدافع المشاهد، وقد عرّفه قدامة بن جعفر قديماً بقوله: “ويغلب أن يقع التشبيه بين شيئين بينهما اشتراك في معانٍ تعمهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل منهما بصفتها”. أما أبو هلال العسكري فقد رأى أن بلاغة التشبيه وقيمته الدلالية والجمالية تكمن في أربعة أوجه هي: “إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وإخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت عليه، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة العقلية إلى ما يعرف بها عن طريق التمثيل، وإخراج ما لا قوة له بالصفة إلى ما له قوة فيها”.‏

وجماليات التشبيه في شعر طرفة بن العبد هي الجزئية التي يركز عليها الكتيب الذي نحن بصدده، وذلك من خلال التركيز على معلقته، كون أغلب شعره من المقطعات الصغيرة؛ بمعنى أن ما وصل من شعر طرفة يشكل انحرافاً عن تجارب الشعراء الجاهليين الذين وسم طابع الطول مجمل قصائدهم، ولهذا الأمر مسوغاته المنطقية، وأهمها أن الشاعر لم يعمر طويلاً، فقد قتل وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.‏

فمعلقة طرفة بن العبد كما يلاحظ الدارس لها غنية بالتشبيهات البليغة التي تحفل بها أبياتها، إن كان في سياق الطلل والرحيل، أو في سياق وصف الناقة، أو في سياق الحكمة، وتتكون العناصر اللغوية والثقافية والحضارية التي شكلت مرجعية الشاعر في تشكيل هذه التشبيهات من المزواجة بين لغة البداوة ولغة الحضارة، وربما كان هذا نتيجة ما أتاحته بيئة الشاعر (البحرين) الملاصقة للصحراء، فاستعمل كثيراً من المفردات الحضرية وزاوجها مع مفردات الصحراء، إلى جانب بروز الثقافة البصرية ذات النزعة التسجيلية التي تصور ما ترى بإخلاص للواقع المشاهد من دون إضافات تخيلية، فجاءت معظم تشبيهاته بليغة، عميقة عبّر من خلالها طرفة بن العبد عن المشتهى الحلمي الحياتي الذي أراده.‏

خصائص الصورة البلاغية‏

اعتبرت الصورة البلاغية الوسيلة التي يجمع الذهن بوساطتها في الشعر أشياء مختلفة لم تكن ذات علاقة مسبقة، فالجماد نراه حياً معبراً، والمعاني اللطيفة التي هي خبايا العقل نراها وكأنها جُسّمت حتى رأتها العيون. ولذلك فقد عدّ النقاد العرب الصورة الشعرية بمختلف أشكالها: التشبيهية، والاستعارية، والكنائية أهم ما في الشعر؛ لأنها دليل على التفنن والابتداع، وإصابتها بمختلف أشكالها ركن أساس من أركان الشعر، أو مقصد من مقاصد الكلام.‏

والصورة الشعرية في شعر العباس بن الأحنف تقوم على سمتين فنيتين هما:‏

1- التشخيص: أي تصوير الحياة فيما لا حياة به. ويختص التشخيص عادة بإضفاء أوصاف وخواص إنسانية على الأشياء أو المفهومات التجريدية الجامدة.‏

ونحن في شعر العباس أمام خطاب في العشق لذلك فقد برزت فيه الاستعارة التشخيصية بقوة، وهي استعارة تقوم بدور تجريدي يستعين بها الشاعر ليجرد من ذاته ذاتاً أخرى، ويدير معها الخطاب، وكأنها حاضرة ماثلة أمامه، واتكأت عناصر هذه الاستعارة التي تمثل حال الشاعر العاشق إلى عناصر كانت حاضرة دائماً في خطابه العشقي، ولعل من أبرزها مفردات العين، والقلب، واللسان. كذلك برزت في شعر العباس النزعة السردية التي يتخذ فيها التشخيص طابع السرد والقص، وتقتصر على تشخيص المعنويات.‏

2- الثنائيات الضدية: أي الجمع بين الشيء وضده.. مثل الجمع بين البياض والسواد، والليل والنهار..إلخ.‏

وطبيعة الخطاب العشقي عند الأحنف، شأنه في ذلك شأن غيره من شعراء العشق، بطبيعته قائم على الثنائيات الضدية، فالحب يقوم على الوصل والهجر، وهذا من طبيعة الأمور، لذلك لا بد أن يندرج تحته مقولات ثانوية كالهجر والوصل والألم واللذة وغيرها. وعليه يمكن القول في الختام إن خطاب الحب في الشعر العربي القديم ممثلاً بالعباس بن الأحنف كان ميالاً إلى التشخيص والتضاد، انطلاقاً من الرؤية الشعرية التي تنطلق من الحسي والمشاهد في إيصال المعنى، وبذلك فقد انعدمت الصور القائمة على رؤية فلسفية تأويليلة، فتفكيك الصور لا يحتاج إلا إلى تفكيك العلاقات الدلالية التي تربط بين طرفي الصورة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية