تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ملهمات المشاهير فراشات هائمة حول الشموع

ملحق ثقافي
2018/12/18
د. محمود شاهين

الملهمات في حياة الأعلام والمشاهير (كما وصفهن الفنان والباحث المصري جمال قطب) فراشات هائمة حول الشموع الساهرة، تتراقص مختالةً بألوانها المتألقة في دائرة الضوء الشاعري الهامس، وربما سقطت واهنة لتحترق في نارها المتوهجة.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

والفنان (في غمار هذه العلاقات الإنسانيّة) يدور مع أحداث مسيرة الفكر ووقائع التاريخ بين شقي الرحى، يستلهم الجمال الأنثوي فيسعد به، أو يشقى حسب موقعه من نوره أو ناره. تعتمل في نفسه شتى الصراعات والنوازع والأحلام، ويسري في كيانه ووجدانه دفء العواطف، ورقة النسمات واللمسات الحانية. يمثلها مزجاً إبداعياً تتماوج فيه المنظورات والمحسوسات بين الرؤية والرؤيا، فتتفتح ملكاته عن فنٍ عبقريٍ خالدٍ يحمل تلك البصمات المتباينة.‏

لهذا فإن الملهمات (بحسب قطب) شذرات من تاريخ الإنسانيّة ذاتها، جادت بها قرائح الفنانين العظام، حيث أن نزعة الإحساس بالجمال وبالفن معاً، دبت في أعماق الإنسان عندما تفتح وعيه لوجوده. لهذا فإن الفن لمسة الجمال على وجه الطبيعة، ومنذ طفولة التاريخ، جمعت رابطة الحب بين الرجل والأنثى، وأصبح الشغل الشاغل للرجل هو البحث عن الأنثى الجميلة، وراحت هي بدورها تتفنن باجتذابه ببواعث الجمال، وأسباب التزيين، وأساليب الإغراء الدائبة المتجددة، لهذا أنزلتها العديد من الشعوب والحضارات منزلةً رفيعةً، ومكانةً مقدسةً. فالفراعنة اختاروا آلهةً من الإناث مثل: حتححور، إيزيس، تاورت، نفتيس، موت. كما جلس على عرش مصر الفرعونيّة ثماني عشرة ملكة ابتداءً من (مريت نيت) التي تُعتبر أول ملكة جلست على العرش في العالم في القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد، وانتهاءً بكليوبترا (آخر الملكات). أما عند الإغريق، فقد أبدع الفنان (زيوكيس) لوحته (هيلين طروادة) مجسداً فيها الجمال الإغريقي المثالي الذي استلهمه من أجمل خمس نساء في أثينا.‏

المقاييس الجماليّة لملهمة الفنانين‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

استلهم الفنانون التشكيليون أعمالهم الفنيّة على مدى قرون التاريخ من المرأة، وما زال الإلهام يفيض منها حتى اليوم، لاسيّما المرأة الجميلة التي جهد الأقدمون في وضع شروط ومقاييس ونسب شكّلت قانوناً للجمال اختزلت بثلاثين نقطة منها: ثلاثة بيضاء تشمل: البشرة والأسنان واليد. وثلاثة سوداء تشمل: العين والحاجب والأهداب. وثلاثة حمراء تشمل: الشفة والخد والأظافر. وثلاثة طويلة تشمل: القوام والشعر واليد. وثلاثة قصيرة تشمل: الأذن والأسنان والقدم. وثلاثة ضيقة تشمل: الخصر والفم والكاحل (ما بين الكعب والساق). وثلاثة ممتلئة تشمل: الردف والذراع وباطن الساق. وثلاثة طرية ناعمة تشمل: الإصبع والشفة والشعر. وثلاثة صغيرة تشمل: الأنف والرأس والثدي. وثلاثة عريضة تشمل: الجبهة والصدر وما بين الحاجبين. يُضاف إلى ذلك، القيم الكامنة في نفس المرأة كعطاء الأمومة، والجاذبيّة، والثقافة، وقوة الشخصيّة، والسيطرة الروحيّة. هذه هي القوى السحريّة التي يهبها الله للمرأة في غير تصنّع أو تكلّف أو تجمّل. بل إنها الجمال العبقري الذي يقفز فوق كل المقاييس والشروط والحدود.‏

حكم الهوى وسهام كيوبيد‏

وضع المصورون في القرنين السابع عشر والثامن عشر، العديد من اللوحات لملوك وحكام وبجانبهم الفاتنات والخليلات والمغامرات، ولم يقتصر دور هؤلاء الحسان (كما يقول قطب) على الجوانب العاطفيّة فحسب، ولكن كثيراً ما لعبن الأدوار الرئيسة في مسيرة الأحداث والتحولات السياسيّة. من أبرز الجميلات التي خلدهن التاريخ والفن (ماري مانسيني) التي ارتبط أسمها بصاحب عرش فرنسا (لويس الرابع عشر) وتحوّل بسبب عشقه لها إلى فيلسوف يحب العزلة، ويهوى التأمل، وقايض بحبه لها عرشه، بل عروش الدنيا وتيجانها. لقد أودع الله فينا أثمن ودائعه ألا وهي الحب. تتفتح قلوبنا لمن نهواه، ونحلق في أفلاكه فرحين غير عابئين بقوانين الحساب وقواعد المنطق ونداءات العقل، وركائز الحكمة. ولهذا بكى ملك فرنسا لويس الرابع عشر عندما أجبروه على الزواج من الأميرة الإسبانيّة (ماري تريز دوتريش) وأن عليه أن ينسى حبيبته (ماري مانسيني) التي خلدها الفنان العالمي (بيير منيارد) في لوحة شهيرة.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وفي الأساطير اليونانيّة، برزت حكاية حسناء طروادة (هيلين) أو (إيلينا) التي اقتتل من أجلها الملوك، واستنفرت في سبيلها الجيوش لمدة عشر سنوات كاملة. اتسمت هيلين بالبهاء والجاذبيّة. تزوجها ملك إسبارطة (منيلاس) وكان على عرش طروادة الملك (بريام) الذي أوفد ابنه الشاب (باريس) على رأس المفاوضين إلى ملك إسبارطة، وهناك وقعت عين باريس على هيلين فراعه جمالها، وفي الوقت نفسه، وقع حب باريس في قلب هيلين الذي أشبعه إله الحب (كيوبيد) بسهامه، وكذلك فعل مع قلب باريس. وبحسب الأسطورة، هبطت (أفروديت) ربة الجمال إلى الأرض، لتبارك هذه العاطفة المستعرة بين الحبيبين اللذين هربا إلى جزيرة نائية الأمر الذي أذهل أهل إسبارطة لهول هذا الحدث، فحشدوا الجيوش للانتقام وساعدها في ذلك بقية الممالك اليونانيّة الأخرى. أما هيلين التي قامت من أجلها الحروب الدامية، فقد ظلت وفيّة لحبيبها رغم قيام الجيش الإسبارطي الجرار بإعادتها إلى زوجها.‏

رامبرانت العاشق الحزين‏

يُعتبر الفنان الهولندي (رامبرانت) من أشهر فناني القرن السابع عشر. نبغ في فن الرسم والتصوير، وكان وراء هذا النبوغ (كما يقول قطب) سر عاطفي يسبح في الأطياف الورديّة، ويحلق في عوالم شاعريّة، وإلهامات سحريّة هو حبيبته وملهمته الجميلة الساذجة (ساسكيا) التي استهواها فنه وبساطته ولعبه بمزج الألوان والعبث بها على المسطحات البيضاء. تزوج رامبرانت من حبيبته الجميلة، وعندما حملت ووضعت ابنهما (تيتوس) رحلت حبيبته الجميلة عن حياته التي أضاءتها (خلال ثماني سنوات هي المدة التي أمضاها معها) الأمر الذي جعل الحياة تسّود في بصره وبصيرته، فوهنت قواه، وركد عمله، وتراكمت عليه الديون.‏

تزوج رامبرانت مرة ثانيةً من المربية الحسناء (هندريكه) لكن ما لبثت هي الأخرى أن توفيت، ولحق بها ابنه تيتوس وهو في ريعان شبابه، فزاد سواد الدنيا في عينيه، واعتصرت قلبه الجهامة، فعاش أعوامه الأخيرة في فقر مدقع، لم يجد عزاءه إلا في رسم لوحات تغلفها الظلمة والوحشة والصمت الحزين، فبدت لوحاته وقد لعب الظلام فيها الدور الرئيس.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

شهداء الحب والعبقريّة‏

عانى الموسيقي النمساوي الشهير (موزار) من خيبات الحب ونكباته إلى درجة قال من خلال أغنية عزفها لحبيبته التي قابلته بجفاء: (إنني فنان أحيا بالحب، وأرضى بالقليل، وأتخلى عن طيب خاطر عن الفتاة التي لا تبادلني حباً بحب، وإخلاص بإخلاص). لكن (كوستاترا فيبير) شقيقة حبيبته المتمردة عوضت له عن هذا الحب الموؤود، عندما جعلته يُحوّل عواطفه نحوها فتزوجها وكان لها دور كبير في إلهامه ونجاحه.‏

بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى قيام الحرب العالميّة الأولى عام 1914، شهدت أوروبا عصراً مزدهراً، وثراءً واسعاً بلغت فيه الثورة الصناعيّة ذروتها، ما أدى إلى طفرة فنيّة لم يشهد التاريخ مثلها، شملت المسرح والموسيقى وفنون الرقص والاستعراض والتأليف والتلحين والفن التشكيلي، حيث ظهر فنانون عظام أمثال: رينوار، مونيه، ديغا، سيزان، تولوز لوتريك، فان كوخ، بولديني... وعشرات غيرهم، إضافة إلى ولادة مدارس واتجاهات فنيّة عديدة كالتأثيريّة وغيرها.‏

ولا غرو (كما يقول قطب) أن يُطلق عليه (العصر الجميل) لاسيّما وقد اتخذ ملامحه وأسمه وصفة الجمال هذه، من ذلك الحشد الهائل من الغانيات الجميلات، وفاتنات المسرح والرقص وعروض الأزياء وصاحبات الصالونات ونجوم المنتديات. فقد شهدت حركة الفن مظاهرة ضخمة حول هؤلاء الفاتنات، وأصبحن مركز الإشعاع والإلهام لحشود المبدعين، وبالتالي توالت الإبداعات الرفيعة من وحي الجمال، وفيض العواطف، وتفتق الأذهان والقرائح، فيما يُشبه السباق المحموم بين جموع الفنانين المنقبين عن الجمال. بعضهم فاز به، والبعض الآخر سقط ضحيةً له، لاسيّما الفقراء من الفنانين الذين لم يملكوا غير فنهم.‏

ظلت الأمور تسير على هذه الوتيرة المترفة السكرى حتى داهمت أوروبا الحرب العالميّة الأولى التي حوّلت جماليات الفن المترف إلى أنقاض، واهتزت ثقة الفنانين بأنفسهم وبمعنى الجمال، بل بمعنى الفن من أساسه، وظهرت نزعات غاية في الغرابة، رافقها نوع من العبث وتشويه الجمال واللامعقول أُطلق عليه أسم (الدادائيّة) التي أعلنت ولادتها عن بدء عهد جديد ذي آفاق فلسفيّة لا حدود لها، تبحث في معنى الإبداع واللاشعور وما وراء الطبيعة وعوالم الروح والأحلام.‏

ملهمات وأحداث‏

أما الأديبة الفرنسيّة الشهيرة (جورج صاند) فقد أوقعت العديد من مشاهير عصرها في حبالها ثم تركتهم حطاماً يتجرعون مرارة التجربة، وفي مقدمة هؤلاء شاعر فرنسا الكبير (ألفريد دي موسيه). و(ساره برنار) الفنانة التي استطاعت أن ترقى إلى ذرى المجد والشهرة العالمية الغامرة، كما كانت مواهبها الأنثويّة مسار إلهام لغيرها من عشرات المبدعين والقادة والساسة والأمراء والنبلاء والمفكرين بحيث أطلق عليها (العصر الجميل) و(كليوبترا باريس) وقد جمعت بين أمجاد المسرح العالمي في القرن التاسع عشر وأضواء السينما في القرن العشرين. أما الموسيقار العالمي (بيتهوفن) الذي تكررت علاقاته العاطفية مع الكثيرات من الشهيرات فقد تحوّلت حياته إلى ما يشبه الفراشة التي تنجذب دائماً نحو النور ومصادر الإلهام والإشعاع والتألق، وربما كان هذا النور ناراً يكتوي بلهيبها، ويترنح في دائرة ضوئها من فرط آلامه وأحزانه. بل لقد كان بيتهوفن يتخذ من عذاباته هذه منطلقاً لإبداعاته الخالدة. كذلك الأمر مع الموسيقار النمساوي (فرانز شوبرت) الذي بدأ حياته بالتفرغ لفنه فقط، لهذا لم يرتبط بزواج شرعي، لكنه كثيراً ما وقع في الحب الذي بدأه وهو في سن السابعة عشرة حيث التقى المغنية (تيريزا غروب) وكانت في مثل سنه، تعيش سنوات المراهقة كالفراشة الجميلة التي تحلق في الأطياف بين خمائل الربيع اليانعة. حتى (نابليون بونابرت) لم ينج من عذاب الحب ولهيبه، حيث شكّلت صبية وادعة تخطو نحو أعتاب الأنوثة والشباب المبكر اسمها (بتسي بالكومب) لمسة الحنان، وبسمة الأمل الوحيدة للقائد الأسير في أيامه القاتمة الخاوية، ما جعل منها مادة دسمة للفنانين الذين تباروا في رسم صورتها، واستلهام مواقفها وعلاقتها بنابليون.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

من جانب آخر شكّلت كلمة الشرق (بحسب قطب) في وجدان الفنان الأوروبي شأناً ومضموناً خاصاً، اختلطت فيه الرؤية بالرؤى، والواقع بالخيال، والإعجاب بالتعجب والانبهار، والحقيقة بالحلم والشاعريّة. وهكذا شهد القرن التاسع عشر ما يشبه الهجرة الجماعيّة من الفنانين المستشرقين الباحثين عن هذه الكنوز الملهمة، ويعتبر النصف الثاني من هذا القرن ذروة هذه الحركة التي يمكن تصنيفها في نوعين من الاستشراق: الأول هو تلك الحركة المنقبة عن الأصول، والجذور والعقائد والمعتقدات، يستخرجون من تراكمات اللغة والدين والتقاليد ما يعتقدون أنه نقائص أو سلبيات يستثمرونها لأغراض في نفوسهم، أو في نفوس من أرسلوهم لهذه المهام ذات الأغراض المشبوهة. والثاني انتهجوا البحث العلمي الخالص المتجرد، فكانوا منصفين في كل هذه الأمور، وباحثين عن الجمال إلهاماً لإبداعاتهم وعبقرياتهم، استحدثوا مدرسة فنيّة عالميّة ذات ملامح شرقيّة تجمع بين الواقعيّة والرومانسيّة عُرفت باصطلاح (الأوريانتاليزم).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية