بحكم كوني – يومذاك- نائباً لرئيس القسم الاقتصادي في «الثورة»، وبحكم وجود رئيس القسم في بلدته خارج دمشق، كلفني رئيس التحرير بحضور الاجتماع، وعند المساء كان الزملاء الصحفيون المنتظرون في قاعة الاجتماعات قد بدؤوا – كعادتهم- يتهامسون بسر الدعوة الطارئة الذي عرفوه بوسائلهم الخاصة: «الحكومة ستقدم على رفع سعر البنزين، وقد دعينا لإعلامنا بذلك..»..
بعد دقائق دخل رئيس مجلس الوزراء إلى القاعة، وبعد بضع كلمات ترحيب، بدأ بالتمهيد للموضوع الذي جلبنا من أجله، وتبين لنا فوراً صحة السر الذي تسرب لنا،عَقد مقارنة ذات خلفية اجتماعية - اقتصادية بين البنزين والمازوت، موضحاً أن البنزين يتعلق أساساً بالمترفين والأثرياء الذين يزداد استهلاكهم له كلما زادت سياراتهم عدداً وفخامة، بينما المازوت هو أساس حياة الكادحين والفقراء فهم يستعملونه للتدفئة وتسخين الماء، ولتشغيل الآليات الزراعية، ومحركات الري، والمعدات الصناعية والحرفية، والكثير من متطلبات العمل الزراعي والحرفي والصناعي الصغير.. و.. و.. ليصل بعد سرد مسهب إلى لب الموضوع ويعلن أنه للأسباب السابقة جميعاً قررت الحكومة زيادة سعر البنزين خمس ليرات، والإبقاء على سعر المازوت على ما هو عليه..
رفع رئيس تحري إحدى الصحف يده قائلاً: «لدي اقتراح مجنون..».. فلما أعطي حق الحديث بدأ بالثناء على المقارنة التي استمعنا إليها،ثم خلص إلى القول: «اتفاقاً مع ما ورد في حديثكم، ولإعطاء مصداقية له، أقترح أن يتم مقابل رفع سعر البنزين خمس ليرات، خفض سعر المازوت ولو ليرة واحدة فقط..»..أجاب رئيس الوزراء فوراً: «أنا لدي اقتراح مجنون آخر، فبدل أن نخفض سعر المازوت فيستفيد من ذلك من يستحق، ومن لا يحتاج، لماذا لا نخصص المبلغ الذي يتطلبه ذلك التخفيض لزيادة رواتب العاملين في الدولة الذين هم جميعاً من ذوي الدخل المحدود؟..»..
تطرق الحديث إلى مواضيع شتى، كما هو الحال في كل اجتماع لصحفيين مع مسؤولين، وحين كاد الاجتماع يصل إلى خواتمه، تدخل رئيس تحرير «تشرين» قائلاً : «السيد رئيس الوزراء لم تجبني على اقتراحي المجنون»..،فأجابه على الفور: «بلى.. لقد طرحت بالمقابل اقتراحاً مجنوناً غيره..».. وبدون تبصر، أو تريث، وجدت نفسي أقول : «لكن صوت العقل سينتصر في النهاية..»..لتجمد عينا رئيس الوزراء لبرهة بدت وكأنها دهر، انعكست على وجه رئيس تحرير صحيفتنا وجوماً وشحوباً، وربما ندم في هذه اللحظة على تكليفي بحضور الاجتماع، أو فكر أن يصرخ بصوت مرتفع : « لمن هذا الصحفي؟..» .. إلى أن أطلق رئيس الوزراء ضحكة عالية فاستراح الجميع، وختم النقاش.. والاجتماع..
كما تنبأت، لم يخفض سعر المازوت، ولم ترفع الرواتب. ومر رفع سعر البنزين دون اعتراض إعلامي، بعضهم فسر ذلك بما دار في الاجتماع، وبعضهم الآخر رده إلى كون الغالبية الساحقة من الصحفيين، في تلك الأيام، لا يملكون سيارات خاصة، والقلائل الذين كانت تحت تصرفهم سيارات حكومية بحكم موقعهم الوظيفي، لم يكونوا هم من يسدد ثمن (بنزينها)..لكن السبب الحقيقي لعدم الاعتراض كان مرده إدراك الصحفيين لموجباته التي فرضتها الأوضاع العامة القاسية في تلك الأيام، فقد كانت سورية تواجه ظروفاً اقتصادية بالغة الصعوبة، وحصاراً سياسياً واقتصادياً واسعاً بسبب موقفها من محاولات تصفية القضية الفلسطينية، التي تمثلت بزيارة السادات لإسرائيل، و عقد اتفاقيات (كامب ديفيد)، و الحرب الأهلية اللبنانية، والاشتباك الإسرائيلي والأطلسي، مع القوات السورية التي دخلت لبنان لإيقاف تلك الحرب، ومنع تقسيمه.. وكان من النتائج المباشرة لذلك حصول اختناقات كبيرة في السوق المحلي، ونقص حاد في عدد كبير من السلع التموينية، حتى صار الحصول على بعضها حلماً صعب المنال،وصار بعضها الأخر ترفاً لا يقدر عليه معظم الناس، وطال النقص حتى الأدوية التي بات على المرضى السعي للحصول عليها من خارج البلد.. كانت أوضاعاً عامة قاسية للغاية، لكنها تتضاءل أمام ما تشهده سورية اليوم..ومع ذلك، ومع الارتفاع الكبير في الأسعار نتيجة أوضاع العملات، فإن حال الأسواق اليوم لم يبلغ ما بلغه في تلك الأزمة..رغم كل الخراب الذي تعرضت له البنية التحتية، وفقدان الدولة لمصادر دخل أساسية..
أخيراً ثمة إيضاح لا بد منه، وهو أنه بحكم كوني متقاعداً فأنا لا أستفيد من خدمات أي سيارة حكومية،وأستخدم في تنقلاتي سيارات الأجرة، وعليه فأني متضرر أيضاً من رفع سعر البنزين، وأيضاً من ارتفاع أسعار السلع، وأجور الخدمات..
لكنها الحرب..