|
لاعليك إنه موسم النصر والحب معاً ...ليست فقط إصبعاً يضغط الزناد..المقاومة روح وثقافة شعب يحب الحياة تحقيقات
ماذا تحتاج? كيف يمكنني مساعدتك? هل يمكنني أن أقدم لك شيئاً? هل ينقصك شيء? مثل هذه الأسئلة وغيرها سبق أن طرحتها على العشرات بل المئات من المهجرين اللبنانيين في مدرسة المتنبي بدمر, واعتادت على الإجابات أريد دواء لهذا المرض أو ذاك, أحتاج إلى فراش أو غطاء هناك نقص في المنظفات, الحمامات لا تكفي هذه المرة أجابها عباس: أريد عروساً.
آثرت الدكتورة سحر التعامل مع هذا الطلب بشيء من الجدية فاستفهمت هل تريد أن نبحث لك عن فتاة لتتزوجها? قفزت سامية كالملسوعة من خلف الشاب وصاحت: لا, لا أنا العروس. هنا أدركت الدكتورة سحر أن الشاب يتحدث بمنتهى الجدية, لكنه أخطأ التعبير, فهو يريد بالضبط الزواج وقررت بدورها أن تمضي في هذا الأمر حتى نهايته. كان عباس سكيكي وسامية حب الله مخطوبين وقد تقرر موعد زواجهما يوم 12 تموز إذ سبق لهما قبل هذا التاريخ أن أرسلا جوازي سفرهما مع أحد مكاتب السياحة إلى مصر وجهزا كل ترتيبات العرس وأثاث المنزل وهيأا نفسيهما لقضاء شهر العسل. وكما في التراجيديا اليونانية القديمة لعب القدر لعبته وسقط حرف الراء سهواً أو عن عمد وسط الحب الذي يجمعهما فنشبت الحرب الذي اعتقدا في البداية أنها لمدة يوم أو يومين لكنهما اكتشفا مع مرور الوقت لاسيما بعد قضائهما ثلاثة أيام بلا نوم جراء القصف, أنها ستطول وأن حلمهما صار مؤجلاً لمدة عام على الأقل وهكذا حزما ما أمكنهما من حاجيات شخصية وتوجها إلى سورية. ولا أخفيكم هنا أنني لو كنت مكان د. سحر وواجهتني الحالة ذاتها لشعرت على الأرجح بالنفور, ولطرحت على نفسي عشرات الأسئلة المستاءة: هل يمكن لأحد أن يفكر بالزفاف وسط الموت والدمار والأنقاض? كيف يمكن لهذين العاشقين أن يطالبا بالفرح والعالم كله مشغول ببطولات مقاتلين لا يغمض لهم جفن يواجهون أعتى آلة عسكرية في المنطقة بأمر من تعتقد نفسها سيدة الكون, بل ومشغول أيضاً بتضحيات شعب يتعرض لأبشع أنواع الهمجية? كانت مثل هذه الأسئلة تحاصرني وتؤرقني وتجعلني أتخذ ذات الموقف الذي اتخذته وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لا داعي لمثل هذا العرس لاسيما أن هناك إحدى العائلات الموجودة استشهد ثلاثة من أبنائها وعائلات أخرى لا تعرف شيئاً عن بعض أفرادها. لكن كما تغلبت إرادة الجنوبيين على أحدث التقنيات العسكرية في العالم, كذلك تفوق الحس الشعبي البسيط على منطق الأخلاقي وعلى المحاكمات المنطقية لوزارة الشؤون الاجتماعية, الحياة لا بد أن تستمر. فسامية التي ظنت أنها لن ترتدي أي فستان زفاف وأن زواجها على الأرجح سيكون سريعاً وصامتاً ودون أي تجهيزات , لم تصدق أن الحظ حالفها على هذا النحو, تقول إنها فرحت بفستانها وزفافها وحفل زواجها لأن هذا يثبت للعدو أنه رغم المعاناة والآلام لدينا القدرة على الحياة وعلى التكاتف وعلى السعادة وأنه مهما حدث لن يستطيع أحد أن يقضي على روح التحدي فينا, وأنه لا يمكن للعدوان أن يمنعنا من الحياة, ولم تجد والدة سامية حرجاً في إهداء هذا الزفاف إلى السيد حسن نصر الله مؤكدة أنه إذا عرف به فسيكون بحق سعيداً لأن هذا يعني أننا مصرون على الحياة وأن النصر آت. حفل الزفاف ساعدت به جمعية الشباب الخيرية بدمر, وكما بدا لي فإن معظم أعضائها صغار في السن بل إن أكبرهم لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره, وهم لا يملكون مالاً لكنهم مقتنعون أن بمقدورهم فعل شيء وتعمل بعض أمهاتهم على مساعدتهم. كانوا قد قرروا إقامة عرس وزفة إلا أن تعليمات الوزارة اضطرتهم إلى اللجوء إلى إحدى الصالات. الدكتورة سحر البصير طلبت مني ألا أضخم الموضوع, فالمسألة بسيطة الحياة تستمر وكما نستطيع تحمل آلامها التي لا يد لنا فيها, فإن بإمكاننا أن نصنع شيئاً من أفراحها ولو فوق الخراب, لم يقض عباس وسامية شهر العسل في مصر كما كان مقرراً بل يمضيانه الآن أمام شاشات التلفزة ويخرجان أحياناً لزيارة بعض الأماكن في سورية. على العكس من عباس وسامية فوجئ الشابان وليد ونيفين أثناء غدائهما في المدينة الجامعية بحضور بعض الشبان والشابات ليأخذوهما كل على حدة وليبدؤوا بتجهيزهما حيث ارتدت نيفين كما تقول فستاناً أبيض وأقيمت لهما زفة وكان العرس رائعاً لدرجة أنها لو خططت له مع خطيبها منذ عام لما حدث بهذا الشكل.
تؤكد نيفين أنها كانت تسمع وخطيبها عن ترتيبات لإقامة عرس لكنهما لم يتوقعا للحظة أنهما المقصودان لأنهما اعتبرا هذا المشروع مؤجلاً ولفترة طويلة, كانا قد قررا الزواج قبل أيام من بدء الحرب, إلا أن القذائف أرجأت كل شيء وتتذكر نيفين أن خطيبها كان يسهر في منزلهم في قرية الرياق التابعة للبقاع عندما بدأت القذائف تتساقط من كل حدب وصوب وراحت طائرات الاستطلاع تحلق فوقهم, ولما انفجرت قذيفة على بعد أمتار قليلة من منزلهم وكسرت الزجاج وقطعت الكهرباء, حزموا أمرهم ورحلوا إلى دمشق معتبرين أن كل شيء صار مؤجلاً. القصة, قصة الخطيبين سمع بها متطوعون من المدرسة الوطنية وخريجوها وعددهم نحو الخمسين يؤمنون بمساعدة أهلهم مستلزمات نحو 180 عائلة يقيمون في الوحدة الثانية في المدينة الجامعية, فقرروا مفاجأة العروسين واسعادهما, أو الأصح كما قال أحدهم: قررنا أن نثبت قدرتنا على العيش ولو تحت القصف. على أية حال وليد بعكس زوجته نيفين يشعر بالخجل مما حدث فقد جاء إلى سورية كمهجر ولم يكن يفكر بهذا الموضوع وهو الآن مرتبك لأن وضعه اختلف, صارت لديه مسؤوليات والحرب طالت ولا يعرف متى يمكنه العودة إلى منزله. الاستياء الذي شعرت به في بداية متابعتي لهذا الموضوع وجد أخيراً دحضه النهائي والقاطع عند وسام وخطيبته خديجة ليس لأنهما لم يتزوجا بعد, وليس لأنهما يرفضا الزواج بشكل حاسم الآن, وإنما بسبب حالة المرح التي يعيشانها, فبينما كنت أتحدث إليهما بحضور أكثر من عشرة أشخاص من أقربائهما, جاءهم نبأ استشهاد أحد السكان من قريتهم , فقابلا الأمر كما لو أنه خبر زفاف أو زواج, وعندما سألت وسام إن كان سيحتفظ بردة الفعل ذاتها لو كان الشهيد أحد أقربائه فأكد لي ضاحكاً أن فرحه سيتضاعف مضيفاً أنه هو نفسه جرح يوماً لكنه لم ينل شرف الشهادة. لكن لماذا لم يتزوج وسام ولماذا لايريد ذلك الآن? يجزم وسام أن سكان جنوب لبنان لم يخلقوا كي يكبروا بل ليموتوا شباباً وصغاراً, لأن إسرائيل تهددهم باستمرار وفي كل لحظة والزواج بالنسبة لهم ولاسيما في سن مبكرة هو ذاته فعل مقاومة,وهو يرفض فكرة الزواج في هذا الظرف بالذات لأنه غير ميهأ, إذ جاء مع خطيبته وأهلها إلى دمشق, بينما رفض أهله ترك قريتهم كما فعلوا إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لذلك فإن حواسه وعقله معهم, وزاد الأمر تعقيداً أن منزله الذي أسسه وجهزه بكل شيء تحول مع منازل أقرباء له إلى ركام أنقاض. ويعلق ضاحكاً تصوري سأستمر في دفع ثمن أنقاض للبنك لمدة ثلاث سنوات ويستدرك بجدية الأمر: غير مهم, فما قيمة منزل إزاء التضحيات والدماء التي تقدم? إذا بقيت حياً أنا وخطيبتي سأعمر غيره, بعد تحقيق النصر طبعاً.ما لفت انتباهي بعد أن استمعت إلى عدد من القصص الحياتية للمهجرين وعايشت بعضها الآخر, هي تلك الروح المقاومة التي ليست بطولات الحرب إلا الحصيلة النهائية أو لحظات التكثيف والتركيز الشديدين لها, فالمقاومة ليست فقط إصبعاً تضغط الزناد, إنها أيضاً طريقة في العيش والتفكير, إنها ثقافة تحمل في ثناياها وقائع الحب والفرح إلى جانب التضحية والتهجير والاستشهاد والدمار, تحمل في طياتها مقومات الاستمرار والنمو مستندة إلى آلام الناس كما إلى آمالهم, إلى أحلامهم المصادرة والمهدورة كما إلى طموحهم. نبيل جاء تحت القصف من بيروت إلى بعلبك لإنقاذها,إنها لن تنسى أبداً ما فعله لأجلها ولاسيما أنه ترك أهله لوحدهم يغادرون إلى دمشق ولحق بهم بعد ذلك. وبدوره علي الشامي رفض القدوم مع أهله وترك خطيبته فخاطر بالذهاب إلى بعلبك غير آبه بالقصف والطائرات قائلاً لنفسه: إما أن نعيش معاً أو نموت معاً ومع ذلك لا تزال رباب تحلم أن تقيم حفلين: الأول حفل زفافها في دمشق والآخر حفل النصر في بيروت. هؤلاء الناس ليسوا مجرد أفراد, إنهم شعب يحب الحياة والفرح والحب, لكنه يدرك أنه لا يستطيع الحصول عليها ولا يستحقها إلا إذا تمكن من الدفاع عنها لذلك يطلب الموت كي توهب له الحياة, يحب الموت بقدر ما يحب الحياة, يعيش الفرح رغم كل الأحزان, شعب كهذا سينتصر طال الزمن أم قصر. *** أمهات تحت القصف..
جميع الأمهات تقريباً تمر عليهن لحظات يستغرقن فيها في حلم يقظة يتساءلن خلاله أو يتخيلن ما يمكن أن يحدث لأبنائهن إن متن أو أصابهن مكروه,ويكاد مثل هذا المونولوج الداخلي ينتهي بمعظمهن الى الدموع لأنهن بعد أن يراجعن و يتفحصن جميع الاحتمالات الممكنة,يصلن الى قناعة راسخة أنه لا يوجد أحد في الكون يستطيع حماية ورعاية أطفالهن أكثر منهن. أحلام البزي أم في العشرين من عمرها لا هم لها في هذه الحياة إلا أن تكون أماً وهذا يعني عينان مكحلتان بالحزن ووجه مرهق خوفاً من الآتي وخوفاً من انكسار يتهدد حياتاً غير حياتها: حياة ابنها المعوق البالغ من العمر عاماً واحداً, ومشروع حياة لآخر ما زال في أحشائها يشاطرها بلغة ومشاعر ربما مختزنة لدينا في عقلنا الباطن قسوة عالم همجي أقل ما يقال فيه: فظ وقاس, استهدفت الطائرات جسر المطار قرب منزلها في الضاحية الجنوبية,فهرعت الى أحد الملاجئ, ثم انتقلت الى آخر, وسرعان ما اضطرها القصف الى التوجه نحو احدى مدارس بيروت لتكتشف أيضاً أنها غير آمنة.
هنا تتوقف أحلام وتتنهد قائلة:احترنا أين نذهب الى البقاع مشكلة,وإذا عدنا الى بيتنا مشكلة لم أعد أعرف ماذا أفعل. فمشيت في الطريق مع أقارب لي لساعات عديدة,ربما أربع أو خمس ساعات ,وأنا أحمل الطفلين معاً,واستمررت في التنقل من مكان لآخر أكثر من 12 يوماً.. لم أكن خائفة على نفسي بل على أطفالي,ولاسيما طفلي المريض,لأنه لو حدث لي أي مكروه فمن سيهتم به مثلما أفعل.
اتجهت أحلام الى سورية عندما سمعت أنهم يستقبلون اللبنانيين في مدرسة المتنبي بدمر اهتموا بولادتها وأنجبت ابنة أسمتها وعد تيمناً بالوعد الصادق.. بمنتهى البساطة والعفوية تشرح أحلام معاناتها,الحرب شتت أسرتها,فهي موجودة بدمشق مع بعض أقربائها لكن زوجها ظل في الجنوب لأن والديه عجوزان ولا يسعه تركهما. وهي لم تستطع المخاطرة بحياة أبنائها تحت القصف,وكل ما تتمناه أن تعود ويلتئم شمل أسرتها,وببراءة لا نظير لها تدعو لابنها الذي لم يتجاوز العام بالشفاء (لديه نقص أوكسجين في الدماغ) قبل أن يصبح شاباً (لديها ايمان شبه مطلق أنه سيشفى) لتسلمه بيدها الى سماحة السيد حسن نصر الله ..لأنه حتى لو استشهد فهو ليس أفضل من ابن السيد وليس أفضل ممن استشهدوا حتى الآن. لا تختلف حكاية ميادة كثيراً عن حكاية أحلام,فهي أيضاً في العشرين من عمرها,وهي حامل في الشهر التاسع وتنتظر مولوداً قررت مسبقاً تسميته (الوعد الصادق) كانت منزوية في ركن وحيدة,لا تقوى على الحراك بدت في نظراتها تجاهد للتهرب من كل شيء,كأنها لم تزل تقف في قريتها مارون الراس ولا تستطيع عيناها مفارقتها.. وعندما اشتد القصف, أو كما وصفت لي الوضع فيما بعد,عندما صار القصف كمطر غزير في عز الشتاء,اضطرت الى المغادرة متجهة الى بنت جبيل,وعندما أخليت هذه القرية أيضاً ذهبت الى صور,فلحق بها القصف. انتقلت الى صيدا,وامتدت رحلة التهجير والمطاردة الى الضاحية وبيروت والبقاع وانتهى بها المطاف في سورية مع أخيها وزوجته وأبنائهما الثلاثة, لكنها أحضرت معها طفلاً في أحشائها وجنوباً في قلبها ومشاهد حزن في عينيها ودموعاً لم يسعها السيطرة عليها وهي تتكلم. أشعر أنني وحيدة,لا أعرف عن زوجي شيئاً منذ أكثر من اسبوعين ولا أدري إن كان حياً أو استشهد,ولا أدري إن كان طفلي سيأتي الى هذه الدنيا يتيم الأب. كان إجهاشها بالبكاء يعني بالنسبة لي أنها تحس بحصول شيء ما لزوجها ولاسيما أنها أخبرتني بعد تردد أنه من المقاومين. بعد أن تمالكت نفسها راحت تؤكد لي أنه حتى لو استشهد,فهي ستكون سعيدة ولن تتقبل عزاء,بل تريد أن يقال لها هنيئاً بالشهادة. ميادة تحمد الله أن كل منازل قريتها مارون الراس هدمت بما فيها منزلها,وحتى المنزل الآخر في الضاحية الجنوبية ببيروت دمر.. تحمد الله قائلة إن الأشياء يمكن تعويضها لكن الحزن لا يكفي على الدماء التي سالت والأطفال الذين ماتوا.
|