تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


خوابي الأحزان البلدية!

آراء
الخميس 14-6-2012
حسين عبد الكريم

في البلدات القديمة والقرى العالية المحتفظة بالذكريات كأبناء المدارس المجتهدين، الذين يحفظون جدول الضرب ومحفوظات الشعر والأمثال.. في هذه البلدات تمتلئ جدران البيوت الطينية أو الإسمنتية بالمسامير المتينة، يعلقون عليها الأطباق

والأواني والألبسة والقمصان والأباريق.. ولا ينسون كل وقت أن يكنسوا عنها الغبار بالاستعمال أو بالاهتمام.. ولا يخلو حائط بيت من مسامير لتعليق الذكريات وحمل جرة حزن ودنان تعب وخوابي ألحان وأشواق وجراح.. كيف لا؟ وكل واحد من هذه البيوت له حزن وله جرح وله غائب وله حرج وعتب وأغنية أسف وأسى وله خابية ممتلئة بالأمنيات والتمنيات وأغنيات الأمل، التي تتعتق بقوة الوجدان وقوة الزمن الوطني الذي يؤلفه عقل الحيطان بحبه لعقل الإنسان.. ولا يكاد يفترق عقل زمان عن مكان عن إنسان.. لا يوجد وطن بلا أحزان وجراح تحفظها الأيام والأرواح، ويوماً بعد يوم وحزناً بعد حزن يزداد تعتيق هذا الحزن الكبير وهذا الجرح المرير.. لا تتوقف الخوابي ولا تتوقف الآلام، وبين هذه وهذه علاقة صلة وثقة وولاء.. الخابية التي تحفظ أجمل وأصعب الأحزان أجدر بالثقة من جميع الخوابي.. ولا غنى عنها أيها المثقلون بثمار الجراح كأغصان الأشجار الجدارية المزروعة في حواكير البيوت وأحفة القلوب والترابات الحميمة..‏

أبناء البلدات والمدن والقرويون يقولون عن المزروعات والأشجار المجاورة للبيوت: جدارية، أي قريبة من الجدار، وكذلك الخوابي التي تعتق الخمور جدارية وكذلك التي تعتق أبلغ الوجع وأبهى وأقسى الوداعات وأشد الأحزان وآلام الجراح وأبهظ الغيابات إنها جدارية ومتلاصقة مع جسد القناعات وقيامات الوجدان وحيطان الأحلام..‏

امرأة ورجل أب وأم أخت وأخ وأبناء وأعمام وخالات وجدات، وبيوت وبيوت وشجرات وكروم.. عند المفترقات والقلوب وأعالي الزمن مكتوبة أسماء الأحزان ومعها مكتوب وطن حنون وقوي وبهي.. مكتوب على الأعمار والأزمنة والضيق أسماء الغائبين وأسماء الجراح، التي تزداد عتقاً وأثراً ونشوة كلما ازدادت القلوب وجعاً وازدادت أملاً.. وليست المآسي من باب الترف بل هي جردة مصير..‏

أوجع الآلام التي لا يمكن كسرها ببعض أمل.. وأظلم الظلمات تلك التي لا يجيد الضوء اختراق كتمانها بالشبابيك وإطلالة النور..‏

تجار (الانتيكا) قد يفهمون بقيمة الأدوات التي يشترونها ليضمنوا الربح.. الوجدان الوطني لا يعنيه الشراء والبيع والربح، يفهم العتق والأحزان المعتقة على أنها بقاء في بقائه وبهاء في بهائه، ولا يتنازل عن أية جرة معلقة على حائط بكاء أو جدار وداع أو جذع غياب.. الوجدان الوطني جيد بقدر ما يحتفظ بالجراح من أجل نشوة الأمل التي لابد أن تأتي بالزمن والبشر والشجر والحضارة والحجر.. (تكتيكات) الوطن في حماية أحلامه بالجراح ثقافة في غاية العفوية والقدم وفي غاية العمق والمعاصرة.‏

كل بيت في الضائقات حزين، وكل بيت يملأ جرة حزناً وجرة جرحاً ودناناً أملاً وخوابي من ذكريات ووطن.. وكل بيت يتكئ على أساه وأسفه، لا ليقدم الأسى والأسف بل ليقدم المتيسر من الصبر والعزاء والثقة بالأمان: تفضل أيها الفؤاد القليل من الصبر!! وأنت أيها القلب المثقل بالجرح تفضل وذق هذه الألفة وهذه الأمنية، وهذه الحياة رغم الموجعات..‏

لا فلات من أن نؤمن بفن تعتيق الأحزان الوطنية الكبيرة، كي تبقى تعلمنا الذوق وأناة التوق والصبر والسلوان والأمنيات..‏

حين نمر بالقلوب التي لم تتعلم بعد الافتراق عن وحشة الجراح نشعر بعدم الانشراح ونغترب في الدموع الدموع..‏

وحين تعبرنا قلوب، رغم كثافة الجرح الساقط على نبضها، تؤلف مطالع للعناية بالأمنيات الوطنية والقناعات البلدية اليافعة، هذه القلوب تشعرنا بقيمة أن نبقى ونحيا ونسعى ونكبر قرب الجدران والذكريات والحياة كزمن وطني معتق بكل مذاقات الوفاء والإخاء والألفة، رغماً عن أنف الجهل الذي يمر تهريباً وخلسة إلى القليل القليل من محفوظات الوجدان وجراره المعتقة وخوابي أمانيه.. والخلسة التي بين الزمن والمحن أضعف من أن تلوي عنق الوطن لأنه جمع وجد سالم وجمع شوق حالم وجمع جمع الجموع..‏

الجهل الذي يتسرب إلى جسد الأماني لا يختلف عن النسمات الفاسدة التي تتسلل إلى جسد الخمور وأقدس المحفوظات والتأملات.. لابد من صدها ومعالجة واقع الأحوال والآمال..‏

وطن دائم الاستعداد لتعتيق الجراح والأحزان وقراءة طالع الأزمنة.. إنه الجميع والوجدان والأزمان..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية