تعالج موضوع شعر الحداثة العربية منذ حوالي منتصف القرن الفائت حتى وقتنا الحاضر
لترصد البدايات التاريخية لهذا الشعر الذي أطلقت عليه أسماء عديدة آن بزوغ نجمه منها(الشعر الحر) و(الشعر المرسل)، (الشعر الجديد) و(شعر التفعيلة) و(الشعر المفعل) أو غير ذلك من تسميات أطّرت لهذه (الثورة) الشعرية إبان ظهورها واختلفت حول من هو رائدها الأول ولايزال مثل هذا الاختلاف سائداً بين النقاد لحد اللحظة على الرغم من انقضاء أربعة وستين عاماً على بدء الكتابة وفق هذا النمط المستحدث وطرائقه في (النظم).
ستحاول هذه المطالعة الأدبية استعراض مسيرة حركة الشعر العربي المعاصر اعتباراً من ولادة فعالياتها المؤسسة حقيقة لماهيتها البنيوية المتطورة شكلاً ومعنى وأداء وفحوى على أن تتوقف تباعاً- وبحديث مقتضب- عند أهم شعرائها الرواد والخطوط العريضة لمنجزاتهم الشعرية وما يستتبعها من تنظيرات نقدية حول تجديدهم لقالب قصيدتهم ومحتواها إذا توافرات لهم أو إيراد رأي النقاد في تقييمهم لتجارب هؤلاء المؤسسين.
-2-
إن المتتبع الملاحق للدور التاريخي الذي قامت به نازك الملائكة في ثورتها على النظام التقليدي المعهود للشعر العربي المبتدئ منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين يدرك أنها لم تطل على هذه الحركة من نافذة« الحداثة» بمفهوماتها الغربية، فلا يجد القارئ لهذا المصطلح ذكراً أو أثراً في كتابها النقدي الرائد (قضايا الشعر المعاصر) الصادر في تشرين الأول من عام 1962 عن مطبعة دار الكتب ببيروت أو حتى في مقدماتها لبعض دواوينها بل يجد بديلاً له أو مقارباً لمعناه في مصطلحات أخرى تستخدمها مثل «التجديد»، «المعاصر» و«البدعة» ويبدو- كما يرى الناقد الدكتور عبد الله أحمد المهنا أن نازك في تجنبها مصطلح«الحداثة» كانت على وعي تام بما يثيره هذا المصطلح من إشكالات نقدية فضلاًَ عن المناخ الأجنبي الذي نشأ فيه واكتسب من خلاله ظلالاً نقدية هي أبعد ما تكون عن واقع البيئة العربية، ولذا كانت في دعوتها لتجديد الشعر مشدودة إلى أصول تراثية، وكانت أحرص ما تكون على أن تؤكد أن حركة الشعر الحديث ليس خروجاً على العروض العربي، بل هي قائمة عليه ببحوره وأشطره وقوافيه والواقع أن ملخص مافعلته حركة الشعر الحر أنها نظرت متأملة في علم العروض القديم واستعانت ببعض تفاصيله على إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال، ولم تصدر عن إهمال للعروض كما يزعم الذين لا معرفة لهم به وإنما صدرت عن عناية بالغة به جعلت الشاعر الحديث يلتفت إلى خاصية رائعة في ستة بحور من الشعر العربي قابلة لأن ينبثق عنها أسلوب جديد في صنع العصر هي البحور الصافية أي القائمة على تفعيلة واحدة.
هذا الإحسان بسلطان الماضي وتمثله في الحاضر كان وراء ملاحقة نازك لأخطاء الشعراء في العروض منكرة عليهم حقهم في التجريب الذي يمثل سمة من سمات حركة الحداثة وشملت دائرة التخطئة أسماء لها باعها الطويل في فن الشعر كنزار قباني وفدوى طوقان في قصائدهما الحرة، ولعل ما تسميه نازك خطأ عروضياً قد لا يكون خطأ إلا عندها، فمن حق الأذن العربية أن تبتدع أنغاماً وإيقاعات جديدة تتناسب مع ذوق العصر ومتغيراته دون أن يطلق على «تجديدها» هذا أو ابتكارها «تعبير» «خطأ عروضي» ومن الطريف حقاً أن تقع الشاعرة نفسها في أخطاء عروضية كانت قد أخذتها على غيرها ثم تدعي أن سمعها يقبل ذلك ولايجد فيه غضاضة.
لاشك أن نازك هي الأهم في جيل الرواد الأوائل لحداثة الشعر العربي المعاصر وكان شعراؤه يرون أن تجربة الشعر العربي المستحدث بكل ما تحمله في تضاعيفها من تمرد على الشكل والمضمون الاتباعيين، مغامرة خطيرة على تراثنا الأدبي العريق، قد تنجح وقد تخفق.... وتمثل نازك هذا الجيل أصدق تمثيل في ديوانها الأول« عاشقة الليل» الصادر عام 1974، والذي تراوحت قصائده بين الشكل الفني للموشحات الأندلسية بأسلوب معدل، والشكل الفني لشعرالمقطوعات المهجري كالثلاثيات والرباعيات والخماسيات، وأما مضمون القصائد مجتمعة فيه، فيدور في فلك الرومانسية الصارخة، حيث تصورت الشاعرة أنها أكثر حساسية ورقة من بقية البشر، وأنها لهذا تحيا غريبة ومتغربة في عالم لا يفهمها فكانت بذلك امتداداً للرومانسيين السابقين عليها من أمثال إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل، فكررت في شعرها ما كانوا يكررونه من معاني السفينة التائهة في بحر الوجود والشطآن الغريقة بالصمت والمعابد المسكونة بالأرواح الهائمة والعزلة عن الوجود المادي والنسق الاجتماعي وحالمة إلى أقصى الحدود في العيش ضمن عالم مثالي خيالي بعيد التحقيق والمنال إلى ما هنالك من متاهات شعورية ونفسية حزينة وذاهلة ومصطدمة بالواقع والإخفاق في التعامل مع عاطفة الحب التي انتابتها بسبب رهافة شعورها وحساسيتها النفسية وعدم مقدرتها على التواءم مع حالة غريبة عن حياتها النمطية الراكدة في مجتمع ذكوري محافظ ومغلق ولكن نازك من جهة أخرى تتمتع بموهبة فائقة في القول الشعري وبطاقة أسلوبية على النظم المتقنة ولايغيب عن ذهننا أن حداثة متقدمة نسبياً حققتها شاعرتنا في ميدان الشعر الجديد أوائل ولادته تبدت في قصيدتها: «الكوليرا» الموجودة في ديوانها« شظايا ورماد» الصادر عام 1949 وفيها تستخدم فنيات إيقاعية متطورة تناسب موضوعها المعالج ألا وهو موت الناس في مصر بهذه الجائحة المخيفة، على الرغم من رأي أدونيس السلبي بهذه القصيدة وهجومه النقدي الحاد عليها.
-3-
ترى الشاعرة والناقدة الكبيرة سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها الموسوعي (الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في الطبعة الأولى عام 2001«أن ديوان نازك الملائكة الثاني(شظايا ورماد) هو الذي بدأ حركة الشعر الحر رسمياً وإعلامياً عام 1949 وبالرغم من أن إحدى عشرة قصيدة فقط من بين قصائد الديوان «الاثنتين والثلاثين» كتبت بالطريقة الحديثة للشعر العربي المسماة أعلاه، فإن الشاعرة في مقدمتها للشظايا تعرض آراءها في هذا التجديد الشعري وهدفه وأفضليته الفنية وقد كسب (كما تشير الدكتورة سلمى) هذه الحركة دعماً عندما نشر بدر شاكر السياب ديوانه الثاني(أساطير) عام 1950 وفيه بضع قصائد من الشعر الحر وتخلص إلى نتيجة مفادها« كان هذان الديوانان حصيلة سنوات من التجريب وقد تبع صدورهما جدل محرج يدور حول أيٍِ من الشاعرين كان أسبق في مضمار الشكل الجديد وهو جدل لم يعد له اليوم مغزى، والطريف أن قصيدة (هل كان حباً) للسياب التي ظهرت في ديوانه الأول أزهار ذابلة الصادر عام 1947 تنتمي إلى تراث الغزل الرومانسي شأنها شأن معظم قصائد نازك في دواوينها الأولى.
m.alskaf@msn.com