جلتُ بهذا السؤال على عدد كبير من الشباب الذين قسّمتهم إلى مجموعتين الأولى ضمّت من هم في مرحلة التعليم الجامعي وضمت الثانية من أنهوا هذه المرحلة وضمّت كل مجموعة حوالي (25) شخصاً
لكن هنا وهناك كانت النتيجة واحدة تقريباً وسلبية بكل أسف بل وتقترب من الكارثية..
لا أحد يقرأ... قد يكون هذا الحُكم سوداوياً بعض الشيء، لكن أن يتواجد ضمن العينة المنوّه إليها سابقاً أكثر من ثلاثة أرباعها لا يعرفون من هو طه حسين أو لم يسمعوا بنجيب محفوظ فإن قسوةً كبيرة يتعامل بها شباب اليوم مع ذاكرة قومهم، حتى أن قسماً كبيراً من الذين يعرفون هذه الأسماء لا يعرفون أي لون من الأدب تناولوه!
كانت مكتبات الأرصفة في دمشق تستهوينا أيام الجامعة فنقرأ أحياناً عدة صفحات ونحن واقفون قبل أن نقرر شراء الكتاب أم لا لأن الميزانية كانت محدودة ومع هذا فهناك قسم منها مخصص ولو لكتاب مستعمل لأننا كنا مقتنعين بأهمية مضمونه وبقدرة الكتاب على إنضاج شخصية كلّ منّا، وكان قسم كبير منّا يقضي ساعاته في (الهوب هوب) في قراءة رواية أو كتاب فكري..الخ.
يكتفون حسب قول معظمهم بما تقدمه الصحف فينتقون منها ما ينسجم مع تفكيرهم، وذهب بعضهم إلى أن الحوارات الالكترونية تتيح لهم تثقيف أنفسهم وإشباع رغبتهم إلى المعرفة لكن عندما تسألهم عن مضمون وعمق هذه الحوارات يحمّر وجه بعضهم معترفين أنها تقتصر أحياناً على تبادل النكت والحكايات الآنية ولا تشكل أي أرضية خصبة لإنبات أي نوع من المعرفة..
الشباب في سن الجامعة يكتفون بمقرراتهم الجامعية وبالكاد (يلحقون) حسب تعبيرهم، أما الخريجون فقد حزموا هذه المقررات ووضعوها على (السقيفة) معلنين مقاطعة الكتاب بشكل شبه نهائي!
ولأن الصورة لم تكن مشجعة في هذه المرحلة العمرية ولأننا اكتشفنا أن هذه النتيجة ما هي إلا حصيلة عدم التشجيع على القراءة في سنوات التنشئة الأولى وبسبب الانبهار الزائد بالوحش الالكتروني الذي غزا حياتنا عدنا إلى المدارس نسأل عن مكتباتها والتي كانت هي أساس جذبنا إلى القراءة وحبّ المطالعة فهل حافظت المكتبة المدرسية على مكانتها وعلى وهجها أم أصبحت الر كن الأقل زيارة في أي مدرسة؟
في مكتبة مدرسة الشهيد نديم مصطفى في قرية ضهر بشير بريف محافظة طرطوس هناك مكتبة مدرسية فيها حوالي (300) عنوان كما أفادت بذلك أمينة المكتبة ربا حيدر وهذه العناوين موزعة بين الأدب واللغة والتراجم والمعارف وفي المدرسة حوالي (200) طالب فقط ومع هذا فقد سجلت على سجلات الإعارة هذه السنة الدراسية حتى الآن (83) حالة اعارة مقابل (135) حالة اعارة في العام الدراسي 2009-2010 و(187) حالة في العام الدراسي 2008-2009 و(142) حالة إعارة في العام الدراسي 2007-2008 ويبدو من هذه الأرقام أن حالة القراءة والمطالعة بين طلاب هذه المدرسة جيدة نوعاً ما.
أمينة مكتبة هذه المدرسة أرجعت هذا الأمر إلى مواصلة الجهاز الإداري في المدرسة على تشجيع الطلاب على الاستفادة من مكتبة المدرسة واستعارة الكتب منها.
هذه الحالة الإيجابية وجدنا حالة مناقضة لها وفي مكان ليس بعيداً منها وتحديداً في ثانوية الشهيد غسان مصطفى في بلدة الصفصافة هذه المدرسة التي تحتضن ما يقارب (600) طالب وطالبة حيث تختلف المقدمات والنتائج بين المدرستين..
أمينة المكتبة المدرسية في مدرسة الشهيد غسان مصطفى أفادت أن المكتبة لديها أكثر من ألف عنوان موزعة على النحو الآتي:
194 عنوان قصص ومقالات وخطب ونوادر، 178 سياسة واقتصاد، 96 شعر ودواوين، 70 تراجم، 63 علوم ورياضيات، 68 تاريخ وجغرافيا، 41 لغة عربية ومعاجم، 31 فلسفة وعلم نفس، 21 دين، 18 علوم اجتماعية، 10 فنون..
هذه الكتب توفّر لطلاب هذه المدرسة خيارات متنوعة تناسب جميع الاهتمامات لكن الإقبال على استعارة الكتب ليس جيداً والأسباب كثيرة حسب أمينة المكتبة لكن الأنترنت هو المتهم الأول في هذه المسألة وأكدت وجهة نظرها بأرقام تختصر حركة تداول الكتب بين طلاب هذه المدرسة فحتى الآن من هذا العام الدراسي فإن رقم الإعارة من المكتبة وقف عند (67) حالة استجرار للكتب من المكتبة، فيما لم يسجل العام الدراسي 2009-2010 سوى (84) حالة استعارة و(64) حالة استعارة عام 2008-2009 وعادت أمينة المكتبة ومساعدتها لتؤكدان تأثير الأنترنت على القراءة بالعودة إلى بداية انتشار الأنترنت حيث تمت استعارة (701) كتاب في العام الدراسي 2001-2002 و(602) في العام 2002-2003 و(536) كتاباً بالعام الدراسي 2003-2004 و(422) كتاباً في العام الدراسي 2004-2005 واستمر تناقص عدد مرات القراءة عبر المكتبة المدرسية مع تزايد انتشار الأنترنت حتى وصلنا إلى (67) حالة استعارة هذا العام!
لم نقف هنا بل تابعنا تقليب هذه المشكلة لنحيط بها قدر الإمكان قبل إطلاق الأحكام أو المؤشرات فسألنا عدداً من طلاب المرحلة الثانوية تحديداً وهي المرحلة التي تتبلور فيها المواهب والميول عن أسباب عزوفهم عن المكتبة المدرسية وعن ما تحتويه من كتب هامة تلبي حاجتهم للمعرفة فأجمعوا على ثقل ووطأة المطلوب منهم في المدرسة فالدروس كثيرة والوظائف تأخذ الكثير من وقتهم والأهل يطالبونهم بالتفوق وكل هذه الأمور لا تترك لهم المجال الكافي للمطالعة ومعهم حق في ذلك..
أصبحت الآن بعض المعطيات متوفرة بين أيدينا ونستطيع من خلالها تلخيص هذه الحالة ولكن قبل ذلك لابد من توضيح سبب الفرق بين حالات القراءة والاستعارة بين مدرستين متجاورتين تقريباً ففي المدرسة الأقل عدداً من حيث الطلاب الحال أفضل بكثير من حيث استخدام المكتبة المدرسية وأعتقد أن السبب في ذلك أن المدرسة الأخرى هي في بلدة تشبه المدينة وانتشار الأنترنت فيها أوسع وبالتالي فإن العزوف عن القراءة أكبر، وهناك مسألة أخرى يجب التنويه إليها وهي أن حالات استعارة الكتب من المكتبة المدرسية لا تقتصر على الطلاب وإنما تشمل الجهاز التدريسي أيضاً.
الأنترنت تحوّل إلى ستار نخفي خلفه التحولات السلبية في عادات القراءة لدى أبنائنا وحقيقة الأمر أننا كأهل لم نشكل القدوة الحسنة لأولادنا في هذا المجال لأننا وبحكم انشغالنا في أمور الحياة تخلّينا عن عادة القراءة فنسينا مع هذا التخلّي أن ننصح أولادنا بها أو نعلّمهم كيف يحبّون القراءة وكيف يستكشفون ما تخفيه صفحات الكتب التي اقتنيناها في وقت سابق والتي لا تمتد إليها إلا يد لتنفض الغبار عنها..
الشاشة الصغيرة تأخذ ما يتبقى من وقت ، متنقلين عبر محطاتها التي تقترب من تناقضنا واختلافنا فتؤمن لنا ما يشغل وقتنا ويلهينا عن سواها ومن الطبيعي أن يقلّدنا أبناؤنا في هذا الخصوص..
أما كيف نشجّع أبناءنا على القراءة من جديد فهذا هو التحدّي الذي نعيشه الآن كأسرة وكمؤسسات تربوية وحتى كمنظمات مجتمع لأن ابتعاد أولادنا عن إرثنا الفكري والثقافي والفني والأدبي ليس في صالح مستقبلهم، وما يتلقونه عبر الأنترنت لا يعلق في الذاكرة كثيراً لأن ما يأتي بسهولة يذهب بنفس الطريقة.
علينا أن نتعاون جميعاً من أجل ألا تبقى الكتب في المكتبات المنزلية والمدرسية مجرد اكسسوارات وأن يعود الدفء للعلاقة بينها وبين أولادنا لأنها بصراحة احتاجت لمن يحادثها ولمن يجني العسل منها ولنكن القدوة الحسنى لأبنائنا في هذا الأمر لأن الأبناء يحبّون أن يقلّدوا أهاليهم في كثير من الأمور.