وفور ذلك سارعت خمس عشرة جمهورية كبيرة إلى إعلان استقلالها, أما مناطق الحكم الذاتي والجمهوريات المتبقية فقد اختارت البقاء في إطار (الفيدرالية الروسية) ولكن ولادة هذه الجمهوريات المستقلة كانت مشوهة إلى حد كبير.
ما أدى عمليا إلى عدم الاستقرار في الأراضي السوفييتية ولاسيما في منطقة القفقاس, أما الدول التي تقع وراء القفقاس الثلاث (جورجيا, أذربيجان, أرمينيا) والتي سبق وأعلنت استقلالها لم تتمكن من تفادي الحروب الداخلية والإقليمية بتحريض مباشر من الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية, ما دفع أرمينيا المهددة إلى الطلب من روسيا إنشاء قواعد عسكرية روسية على أراضيها, وحتى جورجيا في البداية طلبت أن تكون لديها أربع قواعد عسكرية على أراضيها ورغم ذلك ونتيجة لتغير السياسة والنهج الروسي وتراجع مكانة روسيا في الأراضي السوفييتية السابقة, فإنها لم تتمكن من المساعدة في إيجاد حلول جذرية للمشكلات التي بدأت تعاني منها بلدان ماوراء القفقاس, وفي نفس الوقت كانت منطقة القفقاس أيضا تشهد جولات من المواجهات المسلحة الساخنة, بيد أن المشكلة الأكثر تعقيدا والتي ما زالت تهدد استقرار دول ما وراء القفقاس مشكلة ناغورني قره باخ المتنازع عليها من قبل الدولتين الجارتين أرمينيا وأذربيجان, والسؤال الذي يحتاج إلى جواب هو ما الأسباب العميقة لمشكلات القفقاس وما وراء القفقاس? تشير العديد من الدراسات إلى أن الأراضي القفقاسية غنية بثرواتها الباطنية من بترول وفحم وغاز وغيرها من الثروات الطبيعية التي تسيل لعاب الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص, وكذلك موقعها الجغرافي الهام بالنسبة لأميركا الطامعة في محاصرة روسيا وتضييق الخناق عليها لحرمانها من التشاطؤ مع المياه الدافئة وإضعافها أملا بألا تستطيع مستقبلا إيجاد مقومات استعادة قوتها ومكانتها التي فقدتها منذ بداية تفكك الاتحاد السوفييتي, فروسيا وبغض النظر عن نظامها القائم, مازالت المارد النائم الذي سيشكل استيقاظه خطرا جديا على الأطماع الأميركية بالهيمنة على العالم بما فيها على روسيا نفسها, فيما إذا قيض لها ذلك, وسنتناول في هذه المقالة المشكلة التي تؤرق دول ماوراء القفقاس, مشكلة النزاع حول ناغورني قره باخ بين أرمينيا وأذربيجان والتي تهدد المنطقة بأسرها بعدم الاستقرار وربما بنزاعات قد تصل إلى صراع مسلح من الصعب التكهن بعواقبه على الدولتين الجارتين وعلى دول المنطقة, وقد تمتد إلى منطقة القفقاس المجاورة لها والتي تعاني بدورها من نزاعات عرقية بدأت تتصاعد خاصة بعد استقلال كوسوفو الذي شكل سابقة خطيرة دفعت أنجازيا وأوسيتيا الجنوبية بالمطالبة الاعتراف باستقلالهما عن جورجيا, ولم تعد هناك ضوابط يمكن أن تحد من مطالبة الأعراق الأخرى المنضوية تحت الجناح الروسي أيضا بالانفصال عن روسيا مثل الشيشان وداغستان وأنغوشيا وأوسيتيا الشمالية.
لقد بدأت مشكلة منطقة ناغورني قره باخ مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وكان أول نزاع بين الجماعات الاثنية على أراضي الاتحاد السوفييتي السابق, وأدى الصراع بين الدولتين على هذه المنطقة إلى تهجير نحو نصف مليون أرمني ونحو 200 ألف أذربيجاني من المنطقة, وصارت هذه المشكلة هي الشغل الشاغل لأرمينيا وأذربيجان, وبات أي حدث سياسي داخلي فيهما له صلة بهذا الشكل أو ذاك بالصراع على قره باخ, ولعل هذه المشكلة تشغل اهتمام روسيا أكثر من أي بلد آخر, فبسبب الصراع على قره باخ نزح إلى موسكو مئات الآلاف وأصبح عدد الأرمن في روسيا أكثر من مليوني أرمني , وكذلك نزح إلى روسيا مئات الآلاف من الأذربيجانيين جلهم من قره باخ, وروسيا معنية بحل هذا النزاع لسببين رئيسيين:
أولاً: لكي لا يستغل من قبل الولايات المتحدة في تكثيف وجودها العسكري في أرمينيا وأذربيجان علما أن الولايات المتحدة لها وجود عسكري في أذربيجان وجورجيا وغيرهما.
ثانياً: التخوف من أن ينتقل الصراع إلى الأرض الروسية بين الأرمن والأذربيجانيين القاطنين في روسيا, وتعمل روسيا لإيجاد حل سلمي لهذه المشكلة وعودة اللاجئين من الجانبين إلى ديارهم, وإيجاد صيغ حل ترضي الطرفين من مصلحة الدولتين الجارتين ومن مصلحة روسيا أيضاً التي تربطها بأرمينيا علاقات تحالفية تقليدية وكذلك مع أذربيجان التي تحتل موقعا جغرافيا وسياسيا مهما بالنسبة لها, ومن شأن حل مشكلة قره باخ أن يجعل الحوار السياسي بين روسيا وجورجيا أمرا حتميا لاسيما وأن روسيا تتخوف اليوم من انضمام جورجيا لحلف الناتو, ما يحولها إلى قاعدة عسكرية لهذا الحلف المعادي لروسيا ومصالحها الاستراتيجية الحيوية, فانضواء جورجيا وأذربيجان تحت جناح حلف الناتو سيصعد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا, وخاصة أن موسكو تدرك مخاطر وجود هذا الحلف في المناطق المحيطة بها من كل الأطراف, ومن المؤسف أنه لا يلوح حتى الآن في الأفق أي حل يرضي طرفي النزاع على قرة باخ, فأرمينيا تعتبر مستقبلها كدولة مرتبط إلى حد كبير بمصير قره باخ, في حين تعتبر أذربيجان أنه من حقها استخدام كل الأساليب المتوافرة لتحرير أراضيها وإرغام أرمينيا على التخلي عن هذا الإقليم.
ولكن هل يحتمل القفقاس الذي أنهكته الحروب حربا جديدة من المشكوك أن يحقق أحد الطرفين نصرا فيها, لذلك فإنهاء النزاع وحله سياسيا سيكون المدخل الرئيسي لاستقرار المنطقة بأسرها, وهذا الحل من مصلحة جميع شعوب المنطقة.