وأن تنهض في الزمن الضائع مجموعات تأخذ هذا الدور في تزيين صورة الهزيمة والترهل, مستعينة (بكفاءة) عاتية عالية تعرف كيف تبث اليأس وتدمر آخر ما تبقى للإنسان العربي من صبواته القديمة, وأطلاله التي عفا الزمن على أكثرها وبقيت منها بعض شواهد صامدة ماثلة, تذكر كل غاد ورائح.كل صادق وكاذب بأن الحياة العربية مازالت تحتفظ ببعض صورها, ومازال هناك من تمتلكه الرغبة في زمن الرهبة, يتمالك ذاته ويشد الرحال نحو أمل تريد كل قوى الظلام أن تطوح به.في هذه اللحظة بعد أن أخذت دورها واستقوت بالغريب وأنتجت هذه القوى نسقاً من السياسات والفكر ومن البناء المحاصر في الدول العربية المتناثرة, ما يكفي لكي تقنع أبناء هذه الأمة بأن المعنى القومي للعرب لم يكن أكثر من استطالة أخذت قطاعاً من الزمن ثم توهم الكتاب والمؤرخون بأن هذه الاستطالة ذات العمر , هي التاريخ العربي وهي تجليات وتعينات هذا التاريخ في أفق أعلى تم الاصطلاح على تسميته بالقومية العربية.
هذا ليس هاجساً ولكنه متابعة ومعاناة ونحن نرى كل معاييرنا العربية يحاصرها التيه وتسطو عليها أحداث الدهر المعاصر, ويتكاثر مريدو فكرة الانقضاض على الأمة بمعدلات واحدة من الداخل والخارج وباتساق واحد من التاجر والانتهازي والنخبوي والمدعي حيازة الفكر والعلم, حتى لقد صرنا نتوحد بصورة مجانية متعسفة على فكرة تقول :إن العرب قد انتهوا, تلاشى تاريخهم واندمج واقعهم في مملكة الشيطان , أو لكأن هناك من يقول ها قد عدنا إلى خط البداية, كنا طارئين حينما توهمنا الانبعاث حتى جاءت اللحظة المعاصرة لتحدث الصدمة كما يقولون وتعيدنا إلى أصولنا, والقوى التي تستمرئ هذا الاتجاه كثيرة, قادرة ومتنوعة, و في مقدمتهم سياسيون لأن تطبيقات الواقع الراهن مفصلة على مقاسهم وبما يطلق غواياتهم في ا لتجزئة, والادعاء معاً والنخب الفكرية والحزبية والاجتماعية كثيراً ما تعتنق هذا الواقع السلبي, ما دام يعطيها نصرين موهومين, نصر التشفي حيث وجدت هذه النخب ذاتها المهزومة فيما هو مستوطن في الراهن العربي, والتشفي عملية استقلابية تنقل المسؤولية إلى الآخر وتطلق آفاقاً مزعومة تقدم أصحابها على أنهم كانوا على حق ,حتى ولو لم يكن لديهم أي ذرة من الفعل, وأي خطوة اقتحامية في الاندماج العهدي وليس الاستثنائي, في مأساة الوطن وتراجيديا التراجع السياسي والحضاري, ونصر آخر تلوذ به النخب عازفة مرة وعارفة أخرى ,حينما تطرح أبعادها في مرحلة ما قبل المعركة حيث يتكاثر الفرسان والمنتخون, وفي مرحلة ما بعد المعركة حيث تتوالد بمعدلات قياسية أعداد المدعين وأفكار المدعين . والمهم في الأمر هو أن يطمر الجميع زمن المعركة حتى لكأن هناك من يريد أن يغيب تلك اللحظات الموحية والخالدة في حياتنا, ويطرح الكثيرون من مفرداتها الوحدة العربية والتضامن العربي والحق العربي والمواجهة العربية والحرب العربية, هذه الفكرة غير موجودة أصلاً كما يدعون,وبالمحصلة فإن فرسان الهزيمة يقولون: إن لدينا زمناً واحداً متصلاً ,زمن ما قبل وقد اندثر, وزمن ما بعد وقد دخل في المجهول وصار من حيازات الآخرين الأقوياء, ولو حاورت هؤلاء الذين يملؤون الساحة الفكرية والإعلامية والثقافية, لقالوا لك : من خصائص الواقعية أن نعترف بالفناء ومن عذابات أرواحنا أن نطرح الأشياء كما هي, والفكر حينما يغيب عن النار والعذاب يتحول إ لى أساطير صغيرة في كهوف نائية.
والفكر حينما يكتفي بالتفرج على حلبة المصارعة يضعف في القليل ويتوارى في الكثير, يصير سلاحاً لا يخرج من غمده إلا في الزمن اللاحق, ولا أريد قط أن أزين الواقع أو أن أروج لمجاملات وشعارات, لكن المسألة تتصل بصورة جوهرية في حقائق الحياة والمرض والموت جميعاً, وإذا كنا مصرين حتى هذه اللحظة على التصدي للموت القادم من الغرب فإننا على الأقل نمارس بذلك فعلاً غريزياً وإرادياً في وقت واحد, وحتى منذ الطلقة الأولى لحرب تشرين كنا ندفع الموت عن أنفسنا, كنا نقدم لمسافة حية وإن كانت محاصرة كان لا بد أن تتسع مع الزمن وأن تمتد من العمل الذاتي ,إلى الواقع الموضوعي, إلى الحالة المعممة الحية, إن تاريخ الأمم وفي صلبه واقع الأمة ومستقبلها لا يقوم بالصبوات الهائمة وباعتبارات النكسة, ومن ذا الذي يصدق بأن الأمة الحية لا تنتابها كل هذه الكوارث فكيف يحدث أن نؤبن وجودنا العربي بسادية الفعل السياسي المنكر وغيبوبة الفعل الفكري المسكون بالتشفي والادعاء معاً, ونلاحظ هذه النزعة يحملها النخبويون في بعضهم وأقلهم, يقولون من خلالها: الحياة ولدت في الغرب, والموت ولد في الحاضنة العربية,والغريب في الأمر أن الحياة التي ولدت هناك هي التي مازالت تصدر موجات الإبادة,تضمنها أسلحة واستهلاكاً وقيماً لا تناسب إلا الذين انهزموا سلفاً, الآن علينا أن نستعيد مناط الترتيب الحقيقي للمأساة, إننا أمة حية منتكسة ومنكوبة, ومانراه في الأفق هو غير المستقر في العمق.