فيرى أن المؤلف قد قدم لوحة غنية الألوان من الآراء والنظريات والسجالات حول مسألة النقد الأدبي الفكري, محاولاً ضبط الاتجاهات الكبرى والحاسمة فيها, والوصول إلى بعض النتائج التي يمكن الركون إليها, مع بقائها مفتوحة وقابلة للمراجعة والنقد وإعادة البناء. وهو في هذا وذاك, يدقق في وتائر السجال النقدي بين العرب والعالم كمظهر من مظاهر المثاقفة بين الشرق والغرب.
يذهب د. صلاح الدين أحمد يونس في بحثه هذا إلى القول إن الترجمة الناشئة عن النزعة الإرادوية لعبد الله (المأمون) بن هارون الرشيد, تشكل بداية لأعمق حركة مثاقفة بين الشرق والغرب, عندما شكل لجنة من العلماء النصارى, حنين بن اسحاق, حنا الماسوية, يوحنا البطريق, للإشراف على ترجمة الإرث اليوناني والفلسفي والطبي إلى العربية.
وثمة تأسيسات لترجمات عربية لآداب أمم وثقافاتها نتجت عن نزعة إرادوية معاكسة, كتلك التي قام بها عبد الله بن المقفع, إذ نقل من الفهلوية إلى العربية كثيراً من ثقافة الغرب والهند. ومع مداهمة احتلال نابليون لمصر, تأخذ المثاقفة بين الشرق والغرب منهجية أخرى وأشكالاً متباينة. فالمثاقفة الكلية الشاملة مع الغرب الأوروبي بدأت على مستويات, أولها ظاهرة الاستشراق التي أفصحت عن رغبة الغرب في معرفة الشرق معرفة عميقة شاملة دقيقة, والتي وجدت النخب الثقافية العربية فيها - الاستشراق - ظاهرة اختراق تآمرية.
ثم يشير د. صلاح الدين يونس إلى أنه ومع القرن الرابع عشر الميلادي نرى ابن خلدون صار يفصل بين مرحلتين الأولى; المفارقة بين الفقه والسلطة, والثانية هي المصالحة بينهما, لكنه وعلى الرغم من الأحداث السياسية التي أعقبت مرحلة ما بعد ابن خلدون; إلا أن الثقافة العربية دافعت عن حصونها (النقلية), وهنا الكارثة التي أصابت العقل العربي فتراجعت مساراته.
غير أن المؤلف يرى في مكان آخر من بحثه هذا أن المثاقفة لم تعد حالة ترفيهية أو نزوعاً إضافياً فردياً, بل يراها تجربة من تجارب العالم المعاصر الذي يرفض - ولاسيما بعد الثورة الثالثة - أن تبقى الانتصارات العلمية أسيرة النزعة القومية أو الدينية, فمصير الإنسانية متقارب إلى الحد الذي يسمح بهذا التواصل وتلك المثاقفة, وهي في الوقت نفسه ليست عيباً في المتلقي أو مزية في المصدر, فكل أمة من الأمم - ومن خلال تراثها العلمي - لا تخلو من الأسس الديمقراطية التي تسمح لها - إن أثيرت, أن تستقبل علوم الأمم المتقدمة عليها. وليست تلك الأمم بأحق من أمة العرب في العطاء أو التلقي, ولاسيما أن تاريخها العريق في المثاقفة مع الغرب واليونان والرومان, يفتح أمامها المجال للمثاقفة العامة والخاصة مع الأمم الأخرى في الأدب والنقد دون أن تكون تلك المثاقفة في العلوم أو الفنون; عاملاً على زعزعة الخصائص الثقافية للأمة, بل إنها عامل إغناء وتقدم.
وفي الرواية والشعر فإن المؤثر الأوروبي لم يتوقف عند الرواية التي كانت خرقاً غربياً لجدران الشرق العرب السميكة. كما لم تكن الحداثة عند العرب من مصدر شعري في أدبهم, إنما كانت بعداً من أبعاد الفلسفة الأوروبية, فحداثة القرون الهجرية الأولى, انصرم طوقها مع تقدم النقل على العقل, وأما حداثتهم اليوم فتشبه حداثة القصيدة الأوروبية, إذ إن هناك تبادلاً للمواقع بين الفلسفة والقصيدة الأوروبيتين, لكن القصيدة العربية لم تستطع أن تنجب فلسفة عربية, فهما قصيدة غنائية, والشعراء الذين أرادوا من القصيدة فلسفة كأبي تمام, وأبي العلاء, وأدونيس.. فإنهم أجبروا القصيدة على أن تتسع للفكر أو الفلسفة, ولا يزال هؤلاء الشعراء غرباء في المخيلة الشعرية العربية.
صادر عن المركز الثقافي دمشق .2007