لكن هذا النسيج من المحبين ليس صافياً صفاء مطلقاً,فعندما يفتح(النجم) الصاعد الباب لاستقبال المهنئين والمباركين,يكون غير قادر على مشاهدة أولئك الذين لهم مصلحة في التهليل للآتي والتشنيع على الذاهب,معتقدين أن صناعة مديح الجديد وذم القديم رائجة في كل زمان ومكان,وحبذا لو تذكروا قول الشاعر:
إن هذا القديم كان جديداً وسيغدو هذا الجديد قديماً
والواقع أن الوافد الجديد معذور إلى حد ما,لأن كل ماحوله من مظاهر الاحتفاء بقدومه يجعل الرؤية سيئة,مغلفة بطبقة ثخينة من الضرائب.
ورود متناثرة هنا وهناك,عبارات تشير إلى فرح مبالغ فيه إن لم نقل إنه كاذب بالقادم الجديد,أمنيات له بامتلاك إكسير التغيير القادر على قلب الأمور رأساً على عقب بين ليلة وضحاها,اتصالات هاتفية لاتنقطع,رسائل عبر الهاتف الجوال لاتهدأ ,وكأن الزمن تجمد عند لحظة وصول صاحب الحظ السعيد إلى منصبه الجديدتجمداً يجعل الزمن في حالة عجز كلي عن السير إلى الأمام.
وتلعب العاطفة الإنسانية دورها السلبي في جعل المشكلة أكثر تعقيداً,وستكون هذه اللحظة مقدمة لفتح كتاب الأخطاء المتوالية فيما بعد.
من المسؤول في هذه الحالة عن تمهيد الطريق لهذا القادم ليسير فيه على غير هدى?!.
لايمكن اتهام الرغبة الشخصية في الصعود ,فهذه الخصلة خصلة جيدة,ربما ذكرتنا بالمثل الفرنسي القائل:»سيئ ذلك الجندي الذي لايطمح أن يصبح ضابطاً برتبة جنرال«
لانستطيع توجيه اللوم إلى الشخص الذي توسط لصاحب الحظ السعيد في وضعه على طريق الصعود دون التدخل في سرعة الصعود أو عدم سرعته.
لقد كان صاحب القرار إذاً هو المسؤول الأول,ولايجب أن يفهم من هذا القول أن حركة الترقيات الوظيفية يجب أن تحمل خيمتها إلى أرض الجليد لتشيدها هناك,ملغية كل حركة في الحياة الوظيفية.
مانعنيه هو ضرورة الوقوف على التاريخ الوظيفي للشخص الذي ننوي وضعه على السلم تاركين أمامه باب الارتقاء مفتوحاً على مصراعيه.
ومصطلح (التاريخ الوظيفي)هنا مزيج شديد التعقيد يضم الكفاءة,السمعة الطيبة,التدرج الوظيفي, العلاقات النظيفة مع الوسط المحيط,مقدار النجاح المحقق في المهمات السابقة التي أسندت إليه,السجل العلمي الحافل,المزايا الشخصية,وغير ذلك,وهذه الأمور تشكل مجتمعة معايير موضوعية يمكن أن تهديناإلى الطريق الصائب للاختيار.
لكن الذي يحدث أحياناً أن هذا التاريخ يخضع لعملية قاسية تصيبه بتشويه يكاد يأتي على معالمه الشخصية دفعة واحدة فيجعلها مطموسة إلى درجة يصعب معها تمييز هذه المعالم.
تحل العلاقات مع أصحاب النفوذ,والقدرة على الولاء لصاحب القرار ,ولاء منحاز بل أعمى والقدرة على استمطار غيوم رضاه في الحالات كلها,وإتقان القفز البهلواني على الحبال,وتقديم المصلحة الشخصية الضيقة على مصلحة الوطن, وإتقان لعبة النفع والاستنفاع,تحل هذه الصفحات السوداء لتصبح مفتاحاً من أهم مفاتيح النجاح.
عندما يلاحظ صاحب القرار ذلك ويغض الطرف عنه,يكون قد وضع اللبنة الأولى في بناء منزل ضخم للفساد يجد فيه الانحراف ضالته المنشودة.
لقدقيل قديماً:ليس المهم الصعود إلى القمة بل المهم المحافظة عليها, وواقعنا الذي نراه ونشعربه يلزمنا بتعديل هذه الحكمة الذهبية لتصبح على النحو التالي:»إذا أردت الاحتفاظ بالقمة فيجب عليك امتلاك أدوات الصعود المشروع إليها,في وضح النهار لا التسلل تحت جنح الظلام«.
لقد شاهدنا نماذج وصلت بقوى »دفع« غير ذاتية إلى القمة وسرعان ماتهاوت إلى السفح غير مأسوف عليها,لأنها رأت أناها متضخمة إلى حد مؤلم فلم تعالج هذه الحالة المرضية المخيفة,وعندما نظرت وهي جاثمة على السفح إلى القمة أدركت أن الزمن العجيب هو الذي أوصلها إلى هناك مع عوامل أخرى يعرفها اللبيب.
أما الذي وصل بكفاءته وجدارته فيبقى في القمة حتى لو كتبت عليه الظروف تركها,ويبقى مكانه في قلوب محبيه الصادقين أسمى من كل مكان,وإذا انحدر فلن يكون انحداره إلا إلى القمة التي فاخرت به وكبرت به ولم يفاخر ولم يكبر بها.