وتقدمت لائحة مصالحها كل الاعتبارات التي نهض على أساسها ميثاق الأمم المتحدة, حين التأمت الشرعية الدولية بهيكليها الرئيسيين, الجمعية العامة, ومجلس الأمن!
انهار حائط برلين,وتوحدت ألمانيا, وانفرط عقد جمهوريات الاتحاد السوفيتي, ودبَّ الحراك السياسي في دول أوروبا الشرقية, خارج أفياء المظلة الشيوعية, وعلى وقع خيارات جديد اتجهت بوصلتها تلقائياً نحو مفاهيم الرأسمالية, وأسواقها الحرة, ومناهجها الديمقراطية في الحكم والادارة.
وفي حين كان الاتحاد الروسي الجديد, بعد تفكك خريطته السوفياتية, منهمكاً بالبحث عن قواعد جديدة لاقتصاده, وفلسفة جديدة تنهض على أساسها تعبيراته السياسية المنظمة, في مناخ التعددية والاختلاف, في هذا الحين كانت الجمهوريات المنسلخة عن فضاء الاتحاد السوفيتي في آسيا الوسطى بمعظمها, تعد العدة لانعطافة كبرى, تقلب اقتصادها رأساًعلى عقب, وتبدل ولاءها على إيقاع مصالح ,ابتعدت كثيراً عن موسكو, واقتربت كثيراً من مناخات الأطلسي بشاطئيه الأوروبي والأمريكي, بعد أن لفظت الشيوعية, وهجرت صقيعها البارد, نحو دفء لم تتبين شمسه بعد:
صارت الولايات المتحدة الامريكية تقف على سقف العالم, بزهو امبراطوري ومشروع عاصف, أطلقته في فضاء الدنيا, بقوة عسكرية لا تماثلها قوة, واقتصاد جشع لا يوازيه اقتصاد آخر, وفلسفة سياسية مركبة, محمولة على جناحين من المبادئ الديمقراطية في الساحات التي تلائمها, وأولية المصالح في ساحات أخرى على جثة الديمقراطية وجنتها الموعودة.
تحول سقف العالم المجسم بالشرعية الدولية في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك, إلى إدارة شركة, تملك واشنطن الغالبية العظمى من أسهمها, وتقبض بيدها على أعناق عدد آخر من المساهمين, بتحالفات قديمة, وأخرى جديدة, الأمر الذي يمكنها من تظهير مصالحها, كمصالح مطلقة للعالم , وحلمها الامبراطوري, كحبل نجاة للعالم, وجنونها العسكري, كثورة تحرير, يطيح فيها العالم بقلاعه المستبدة, وعقائده الجامدة!
كان نصيبنا نحن العرب, من هذا التحول الخطير في الادارة الدولية, الحصة الكبرى, خصوصاً بعد أن رست التوازنات الجديدة على وضعها الراهن, وحنت أوروبا القديمة والجديدة ظهرها للرؤى التي أطلقها المحافظون الجدد, الذين أمسكوا بمفاصل إدارة الرئيس بوش ولووا عنقها نحو عصر جديد من الغزو والاحتلال وإيقاد نار الحروب.
وإذا كانت افغانستان هي المختبر الأول لافتتاح هذا العصر, فإن العين الأمريكية كانت مفتوحة على آخرها, نحو أرض النفط والغاز والحضارات القديمة في الشرق العربي, فالامبراطورية لا يستقيم سلطانها ما لم تضع يدها على مصادر الطاقة الكونية, وبقوة السلاح , مهما كانت الحرب مكلفة .
جاء غزو العراق, واستباحة بشره وشجره, امتحاناً لهذا التحول الخطير في إدارة العالم, وتفسيراً جديداً للشرعية الدولية, التي اغتصبها قانون الشركة التي تتبربع واشنطن على رأس إدارتها! فأصوات المساهمين في مجلس الأمن, والمتمردة على القرار الأمريكي بالغزو, لم تقدم ولم تؤخر , بل انسحب أصحابها سريعاً الى مقاعد المتفرجين, يراقبون بالمناظير سقوط مبادئ الشرعية الدولية, تحت ضربات القذائف الأمريكية, وسُعار رجال المارينز, الذين اقتحموا التراب العراقي, وأقاموا عليه سلطتهم الغاشمة! وفيما بعد التأم شمل الجميع في مجلس الأمن, ليصدقوا على قرار الاحتلال ويمنحوه البركة, نحن اليوم إذا, أمام مشهد أفول الشرعية الدولية? والحلم الأمريكي ما زال يجرب حظه في منطقتنا, وفي أكثر من مكان, يتراجع هنا, ويستنزف هناك, وفي الأفق بشائر تنبئ, بشرعية جديدة لا تتكئ على مقاعد المساهمين في مجلس الأمن, بل على طاقاتها في صنع مصيرها! وفرض إرادتها مهما أهرقت من الدم, ومهما بذلت من النفوس, والزمن يعمل لمصلحتها مهما اشتدت الخطوب.