حتى إن هذه العلاقة تصلهما بثورة التاسع من آذار عام 1919 أيضاً، أي إنها كلها حلقات متسلسلة في ثورة المصريين الوطنية الديمقراطية التي تعود أصولها إلى الثورة العربية ، ومن هنا فإنه لا يمكن أن تقود ثورة /25/كانون الثاني إلى قطيعة مع ثورة /23/ تموز الأصيلة كما يتصور أعداء مصر.
من المعروف أن ثورة 23 تموز عام 1952 جاءت لتكمل مهام التحرر الوطني الديمقراطي التي قامت ثورة التاسع من آذار عام 1919 من أجلها وخاصة فيما يتعلق/ بالاستقلال والدستور/ وحققت جزءاً منها، وأضافت إلى هذه المهام مهام أخرى حول التحرر الاجتماعي وإزالة الاستغلال وتعميق الخط العروبي.
وهكذا فإن الخط السياسي العام في تاريخ مصر الحديث هو خط الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية المتعاقبة حلقاتها منذ مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر، عندما حمل ضباط مصريون هموم شعبهم وآمالهم على أكتافهم.
من جهة أخرى كانت العلاقة بين الجيش والشعب في مصر علاقة ثقة ومحبة منذ ثورة عام 1919، جمعهما الحلم بمصر حرة وعادلة وكريمة وعربية حتى النخاع.
لقد اختلف البعض حول رؤية تفاصيل الثورة العرابية، وشكك البعض في أهم أحداثها، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى الإساءة إلى معانيها النبيلة وموقعها في الوجدان المصري حتى اليوم.
أما موقف الجيش المصري من ثورة شبابها في 25 كانون الثاني 2011 فلم يكن إلا امتداداً لهذه العلاقة الوثيقة بين الجيش والشعب في مصر- كما أشرنا قبل قليل، حيث احتضن الجيش ثورة الشعب، ووفر لها الحماية، وأيد مطالبها المشروعة، مثلما ساند الشعب ثورة 23 ثموز عام 1952.
لقد تمكنت هذه الثورة/ أي ثورة 23 تموز/ من ترسيخ الاتجاه العروبي في مصر، وأممت قناة السويس، وساندت العديد من الدول العربية التي تناضل من أجل استقلالها، وبنت جيشاً وطنياً متميزاً وقضت على الاقطاع الزراعي، وأجرت تحولات اجتماعية واقتصادية هائلة، بمعنى ما عجزت ثورة عام 1919 عن تحقيقه أكملته ثورة 23 تموز في مصر ما جعل التآمر عليها يزداد من الداخل والخارج بهدف النيل من مسارها وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بشكل مفاجئ ومجيء الرئيس أنور السادات، وضع هذا الأخير أوراق مصر كلها بيد الولايات المتحدة وخضع لها وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.
وبعد اغتيال السادات تسلم الرئيس المخلوع حسني مبارك زمام السلطة لثلاثة عقود كاملة خضع خلالها لإرادة الولايات المتحدة لدرجة أنه أصبح وكيلاً معتمداً لها في المنطقة، وتسللت إسرائيل من خلال نظامه إلى بعض الدول العربية، فعقدت اتفاقيات مع البعض منها/ اتفاق وادي عربة واتفاق أوسلو/ وفتحت لها مكاتب تجارية في دول أخرى و لدرجة أن مبارك تحول إلى عراب لإسرائيل في المنطقة ومدافع عنها، فوقف موقفاً متخاذلاً وداعماً لإسرائيل في حربها على غزة في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، وساهم في إحكام الحصار على قطاع غزة ووقف موقفاً عدائياً من سورية، لأنها تقف في وجه مشاريع الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة ،كما وقف ضد المقاومة الوطنية في لبنان.
وعلى المستوى الداخلي في مصر، وبعد أن كانت ثورة 23 تموز قد وجهت ضربة قاضية للقطاع الزراعي هناك، تنامت في السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك تجارة القطاع العقاري التي كانت أشد خطراً من القطاع الزراعي، حيث أقطع نظام مبارك مساحات شاسعة من أراضي مصر المملوكة لشعبها إلى عدد ممن صاروا جزءاً من تركيبة النظام التي تبلورت في تلك الفترة عبر زواج بين السلطة والثروة، وبالتالي شكل هذا القطاع العقاري جزءاً من الثورة المضادة لنضال المصريين الوطني الديمقراطي الممتد على مدى أكثر من قرن وربع القرن عبر حلقات ثورية متعاقبة،كل ذلك أدى إلى سيطرة رأس المال على الحكم سيطرة محكمة، وإلى الإجهاز على ما حققته ثورة 23 تموز من إنجازات على طريق تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا فإن أمام ثورة 25 كانو الثاني 2011 تحديات كبرى عن طريق إكمال مهام النضال الوطني والقومي التي لم تنجزها ثورة 23 تموز بسبب انحرفات السادات ومبارك عن خطها وأهدافها ومسارها.
إن تاريخ نضال الشعب العربي في مصر هو حركة مستمرة ومتدفقة يرتبط فيها الحاضر بالماضي تأثيراً وتأثراً، ولذلك كان من الطبيعي أن تبنى ثورة 25 كانون الثاني على ميراث ثورة 23 تموز 1952 التي بدورها كافحت من أجل إكمال ما تبنته الحركة الوطنية الديمقراطية خلال الفترة التي أعلنتها ثورة عام 1919، وهذا كله - كما أشرنا- تعبير عن الخط العام المتصل لنضال المصريين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولذلك من الخطأ الفادح الآن من يتصور أن هناك تناقضاً بين ثورتي 25 كانون الثاني 2011و23 تموز 1952، هذا التصور الذي يروج له أعداء مصرفي الداخل والخارج ، في محاولة يائسة لاعتبار ثورة 23 تموز مجرد انقلاب عسكري اغتصب السلطة وليست حلقة من حلقات نضال المصريين من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية، وبطبيعة الحال فإن مثل هذا التصور ساقط لأنه لا يصمد أمام حقائق التاريخ والجغرافية وأمام الإنجازات الراسخة والعملاقة لثورة 23 تموز رغم كل ما تعرضت له تلك الإنجازات من محاولات مسخ لها والنيل منها من قبل نظامي السادات ومبارك.
باختصار فإن ثورات مصر الثلاث ثورة 1919 وثورة 23 تموز 1952 وثورة 25 كانون الثاني 2011 ما هي إلا حلقات متصلة وليست منفصلة ولا يمكن فهم تاريخ النضال الوطني الديمقراطي والقومي في مصر دون الربط بينها، ودون البناء على إرثها باعتبارها حلقات تربط بينها روابط وثيقة بالرغم من اختلاف أولويات كل منها وهي القضية الوطنية في ثورة 1919 والمسائل الاجتماعية والقومية في ثورة 1952 والنحول الديمقراطي والتمرد على الفساد في ثورة 2011.
ومن هنا يمكن القول: إن ثورة 1952 كانت في أشد الحاجة لثورة 25 كانون الثاني 2011 لإكمال مهامها وحمايتها من التلاعب بأهدافها وتطلعاتها المشروعة.