أكثر حدة بحق كاتبها. وفي الواقع، إن غراس توغل كثيرا في أقواله ومفاهيمه، وسيدفع ثمن ذلك سواء في بلاده أو في إسرائيل. إلا أننا وعلى الرغم من كون القصيدة بمقاطعها التسعة قد ألقت بالملامة على إسرائيل لكنها لا تستحق هذا المستوى من ردود الأفعال والتهجمات المبالغ بها، ومنها ما ذكره توم سيغيف في صحيفة هآرتس حول غراس: «إن لم يكن كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قد أسر إليه بواقع البرنامج النووي فليس ثمة أهمية لما قاله».
لم يتوان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن نعت غراس بماضيه النازي وتسخير السفارة الإسرائيلية في ألمانيا للاحتجاج لدى الحكومة الأمر الذي بعث في نفوسنا الاستهزاء والسخرية خاصة في قوله أن القصيدة تعبر عن معاداة للسامية في أكثر البلدان تكفيرا عن ذنوبها عما سفك من دماء اليهود قبل عيد الفصح.)
إننا لا نتهم غراس بتعمد نشر قصيدته عشية عيد الفصح، لأننا لم نقف بها على أي ذكر لسفك دماء اليهود، وإن اتهامه بمعاداة السامية ليس في واقعه إلا أمراً تقليدياً يوصم به كل من ينتقد إسرائيل.
إن ماضي غراس النازي وانضمامه لافن أس اس في شبابه (كتائب الحماية المسلحة) لم يجعله ملتزما الصمت خلال سبعين عاما وبذلك فإن آراءه بعيدة كل البعد عن المعاداة. وإن رؤية سيغيف، بأنه إن لم يكن غراس عالما نوويا أو رئيسا للوزراء في إسرائيل أو رئيسا لإيران لذلك يتعين عليه التزام الصمت إزاء أشد القضايا إثارة في إسرائيل والعالم أجمع، هي رؤية خاطئة.
بتقديرنا نرى أن قصيدة غراس «ما يجب أن يقال» تضم أمورا يجب أن تقال. ويجب أن يُعلن على الملأ بأن السياسة التي تتبعها إسرائيل تشكل خطرا على السلام العالمي لذلك نرى في موقفه من التصرفات الإسرائيلية أمرا مشروعا بل ومن حقه أيضا أن يعارض تزويد إسرائيل بغواصات دون أن يُتخذ من ماضيه ذريعة لإقامة دعوى قضائية ضده. لكن ما يؤخذ على غراس هو المبالغة غير المبررة الأمر الذي أضعف موقفه، وربما يكون قد تصرف على هذا النحو نتيجة لتقدمه في السن وطموحه في جذب الانتباه إليه في آخر أيامه، أو ربما لأن كلماته انقضت مثل الصاعقة بعد عقود من الصمت المطبق كان خلالها من المستحيل توجيه أي نقد لإسرائيل في ألمانيا.
على هذا النحو يتم التعاطي مع كل من ينتقد إسرائيل، ويعتبر تصرفه تصرفا غير مشروع يستحق عليه المؤاخذة والمنع من الكتابة لعدد من السنوات. لكن كل ذلك لم يجد نفعا حيث نشرت قصيدة غراس المتطرفة منذ أسابيع قليلة بعد أن قام مسؤول ألماني رفيع المستوى وهو رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي سيغمر غبرييل بالقول (ثمة نظام تمييز عنصري في الخليل) الأمر الذي أثار ردود أفعال غاضبة لكن من غير المسوغ أن نقف في وجه قصيدة أو قول في الوقت الذي نسمع به عن بيانات صادرة وبشكل خاص البيان الأخير الذي يطالب برفع الحظر عن توجيه النقد إلى إسرائيل في ألمانيا.
لا شك بأن لإسرائيل الكثير من الأصدقاء في ألمانيا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى البعض منهم يدعمنا على نحو أعمى والبعض مصاب بعقدة الذنب والبعض الآخر أصدقاء حقيقيون يوجهون النقد البناء لها ومنهم من يعادي السامية. ولا شك بأن لكل منهم تقديراته ومبرراته لكن الوضع القائم هو أن أي ألماني لا يتجرأ على توجيه النقد لإسرائيل لأنه سيتهم على الفور بمعاداة السامية الأمر الذي لا يمكن الاستمرار به أو احتماله.
قبل بضع سنوات وبعد أن نشرت مقالا نقديا في صحيفة ديفيليت الألمانية اليومية قال لي أحد القائمين على الصحيفة: (ليس بمقدور صحافتنا نشر مقال آخر على غرار هذا المقال) وبعدها لم أدع مرة أخرى للكتابة في تلك الصحيفة، وعلى مدى سنوات عديدة فإن أي صحفي ينضم إلى وسائل الإعلام الألمانية الكبرى يتعين عليه أن يوقع على تعهد ينص على عدم كتابة ما يطعن في حق إسرائيل بالوجود. وإزاء تلك الحالة غير الصحية انبرت الأقلام لتوجيه الانتقادات المبالغ بها لقصيدة غراس.
لم يكن غراس الوحيد الذي وجه نقدا إلى إسرائيل فثمة شخصية أخرى ذات أهمية لا تقل عنه وهو الكاتب المرموق خوسيه دي سوسا ساراماغو الذي فتح باب النقد على مصراعيه في الآونة الأخيرة بعد أن زار الأراضي المحتلة حيث قارن بين ما يجري فيها مع ما يجري في أوشفيتز. ومثله في ذلك مثل غراس حين ذهب بعيدا في أقواله وأبدى عددا من الملاحظات حول سلوك الإسرائيليين عندما قال (يجب أن يعلموا بأنه من غير المسوغ استمرار التذرع بالمحرقة لتبرير كل المخالفات التي يرتكبونها، لكنه يبدو بأنهم لم يتعظوا مما لاقاه آباؤهم وأجدادهم».
وإننا على الرغم مما نشهده من مغالاة فإنه يتعين علينا الإصغاء إلى المفكرين والعظماء فهم لا يكنون العداء للسامية وإنما يعبرون في أقوالهم عن وجدان شعوبهم وبدلا من توجيه التهم جزافا إليهم ينبغي علينا أن نأخذ باعتبارنا أن تصرفاتنا هي التي حدت بهم للتعبير عن آرائهم وإطلاقها بتلك الطريقة.
بقلم: جدعون ليفي