مهما كانت الخلافات بينهم واسعة، فالخلافات من الممكن علاجها والأخطاء مهما كانت فادحة من الممكن إصلاحها، لكن الوطن إذا ما أصيب نحن الذين سنتوجع، إذا ما طعن الوطن نحن الذين سيصيبنا النزيف..
سنوات طويلة مرت، على ذلك اليوم الذي أشرقت فيه شمس الاستقلال والحرية على بلادنا، فكتبنا بالشمس على جبهة الوطن (الجلاء).
هذا ما أكدته الأديبة السورية كوليت خوري في كتابها (قصة الجلاء) فهي على الرغم أنها ليست من هواة الذكريات، بل من مبدعي الآمال ومخترعي الأماني.. ومن عشاق البناء، إلا أنها في موضوع كالجلاء، لها رؤية مختلفة، فمن من يعرف ماضي بلاده، يستطيع على ضوء المعرفة وهدي التجربة أن يؤسس للمستقبل على قواعد مدروسة متينة، فإذا كان المرء يعرف من أين وصل، عليه أن يتذكر من أين يبدأ.
لنستمع إلى قصة الجلاء كما روتها الأديبة كوليت الخوري التي تحمل في نفسها تراثاً وطنياً غنياً ومجيداً.
عرس حقيقي
كان الجلاء أول عيد وطني في سورية، كان عرساً كالأعراس احتفل به العرب في قلب العروبة النابض دمشق، وجميع البلدان شاركت في الاحتفال بوفودها ومفارزها العسكرية وأبناء شعبها، كانت فرحة سورية، فرحة العرب، فالجلاء بعث الأمل والتفاؤل والعزم في البلدان العربية التي كانت تشكومن احتلال، أوانتقاص في سلطاتها، وكان حافزاً على وجوب احتذاء المثال، والسعي لإدراك ما أدركته سورية ولبنان..
كان بداية عهود الاستقلال في البلاد العربية، وعتبة المجد المؤدية إلى الوحدة العربية، وترى الخوري أن هذا الحدث الوطني في حاضرنا القريب وقفة عزّ في مرحلة الضغوط المنسكبة على سورية، وصوت رئيس شاب يهتف في وجه العالم.
«سورية لن تنحني» فالوطنية لا تهرم ولا تشيخ، لأن الناس يتوارثونها رمز حماسة ونضارة إيمان جيلاً بعد جيل.
مستقبل مشرق وزاهر
وتقول الأديبة في يوم الأربعاء عام 1946 استيقظت دمشق مبكرة لتستقبل مع أشقائها العرب العيد الوطني القومي عيد الجلاء الذي نبع من قلب الأمة العربية في دمشق تباشير مستقبل للأمة، مشرق وزاهر.. وتسابقت الوفود الشعبية إلى عاصمة سورية الجبارة من كل الأنحاء حتى زاد مجموع الوافدين من سورية وبلاد العرب على مئة ألف نسمة، وتضيف: في يوم الجلاء كانت طفلة ولكن لاتزال كلمات أمها ترن في سمعها وتختلج في كيانها إلى يومنا هذا، حين قالت: انتصرنا بعد خمس وعشرين سنة من النضال.
ملحمة نضالية عظيمة
بداية الثورة فصل من ملحمة نضالية عظيمة من ثورة كبرى ابتدأت في العشرينيات، واستمرت ربع قرن من الزمن، ولم تتوقف إلا عندما توجت بالجلاء، ومن سجل النضال المشرق هناك: ثورة الزعيم وإبراهيم هنانو، والشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية، وثورة حوران وتلكلخ، والدنادشة، وثورة جبل العرب، وغيرها الكثير من الثورات التي هي سلسلة من حكايات البطولة الرائعة، انطلقت من صميم واقعنا لتصبح من تراث الوطن.
وتتالت المظاهرات التي تتالت ربع قرن لتكون صرخة رفض للانتداب، فتتحدث من أول مظاهرة قامت في دمشق ضد المستعمر 1922، وكانت مظاهرة نسائية انطلقت من مدرسة دارالمعلمات، وكانت زوجة عبد الرحمن الشهبندر في مقدمة المتظاهرات.
أما أول مظاهرة طلابية، فقد انطلقت من مكتب عنبر بدمشق، ولم يلبث أن انضم إليها عدد كبير من الأهالي، ولم تنقطع المظاهرات والاحتجاجات طوال فترة الانتداب، فضلاً عن الاضرابات، والتي كان أهمها إضراب الستين يوماً الذي قام عام 1936.
أما مأساة قصف دمشق فكانت آخر مرحلة من مراحل الانتداب الفرنسي على سورية، ومن أوجع فصولها العدوان على المجلس النيابي في 29 أيار 1945، وقتل حامية الدرك الأبطال حيث حصلت المجزرة المخربة في داخله.
وكتب الشاعر نزار قباني مخاطباً دمشق:
شوّهوا صدرك الفتي حروقاً
بشبابي يا أخت تلك الحروق
لا تقولي انذبحت.. سعر
الكرامات كبود مقطوعة وعروق
وقد سجل التاريخ أنه بينما كان صوت المدافع يتساقط مولولاً على بيوت ورؤوس الناس، كان هناك في سان فرانسيسكوصوت عربي يدوي أعلى من المدافع فيسمعه الناس «صوت ضخم جهوري» يحمل في نبراته ثورة شعب كامل.
إنه صوت فارس الخوري الذي طرح قضيتنا على بساط الحق فهزّ ضمير العالم، لكن يبقى البطل الحقيقي البطل الأكبر الذي لعب الدور الأهم في تحقيق الجلاء هوالشعب العظيم.