وفي هذا الكتاب يحاول جاهداً د. رياض عصمت الإحاطة بالمسرح في البلدان العربية كافة، راسماً لوحة بانورامية لتعطي المشهد المسرحي حقه في جميع أرجاء الوطن العربي، هناك تجارب ناجحة وهامة أخرى من المحيط إلى الخليج.
في مقدمة الكتاب يتساءل د. رياض عصمت إلى أي حد استطاع المسرح العربي أن يخلق تقاليد فرجة أصيلة، وأن يعزز من ارتباط الإنسان العربي بتراثه؟ وهل يمكن أصلاً بناء جسر بين الحاضر المغترب والماضي المنصرم، رغم الهوة التاريخية بينهما؟ هل يستطيع المؤلف المسرحي العربي، المتأثر بمعطيات الثقافة الأوروبية، الإفادة من منابع ثقافته القديمة عبر أشكال جديدة؟ في بداية الكتاب يسلط الكاتب الضوء على استلهام التراث في التأليف المسرحي العربي فيرى أن الصلة في الواقع بدأت منذ نشأة حركة التأليف المسرحي في العالم العربي قبل ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان، وكان التجلي هو سلسلة من المعالجات المسرحية الشعرية أو النثرية لموضوعات ذات طابع تاريخي أو أسطوري معروف، بالطبع كان البناء والأسلوب يقتديان بالدراما الأوروبية السائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
ضمن هذا الإطار، يمكننا أن ننظر إلى مسرحيات شوقي وباكثير وأباظة والحكيم في مصر، وخليل هنداوي ومراد السباعي في سورية، الذين خرجت أعمالهم جميعاً استمراراً أكثر أدبية وأقل عملية من الرواد الأوائل، أمثال القباني وفرح النقاش وصنوع حداد في بلاد الشام ومصر.
هموم مسرحية
يرى د. رياض عصمت أن المسرحية تفترق عن بقية الآداب بأنها تكتب كي تمثل، فإن تياراً لا يستهان به من الآراء في العالم ينحو لفصل المسرح عن الأدب، وإلحاقه بعالم الفنون، ذريعة هؤلاء أن الأدب يفسد المسرح ويقوده إلى دروب مسدودة، كأن يوجه لغة حواره باتجاه الإنشائية، والاستطراد اللفظي بدلاً من أن يعطي الأولوية للاقتصاد في الكلام ولقوة الأفعال هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد وجد المسرحيون أن آراء نقاد الأدب ومعاييرهم الجمالية النقدية وتفسيراتهم كثيراً ما تنأى عن جوهر المسرحية، ويرى د. عصمت أن المسرح عندنا ما زال متصلاً بالأدب في عديد من وجوهه وما زالت المسرحية غير المكتوبة بالفصحى لا تلقى ناشراً على الإطلاق في سورية بينما تجاوزت بعض الدول العربية هذا وصار مألوفاً أن تكتب - بل تترجم - مسرحيات جادة بالعامية.
ما زالت وجهتا النظر تلقيان أشياء، وتعيشان صراعاً، الدافع القومي لاستخدام الفصحى، والنظرة إلى المسرح كبنية فوقية وضرورة العمل على وحدة وانتشار الثقافة، هي أبرز مبررات مؤيدي الفصحى، أما النزوع إلى الواقعية والتقاط نبض الإنسان العادي في بيئته وتسجيل الحياة على حقيقتها المعاصرة فهي أبرز مبررات مؤيدي العامية.
ويذكر بأن ما سمي بـ(اللغة الوسطى) كمحاولة للتوفيق بين التيارين لم تنجح، بل خلفت غربة أخرى عن هذا وذاك، عبر محاولات لتوفيق الحكيم وغيره من الكتاب.
المسرح في حد ذاته، أسمى من النظريات المسبقة الخارجة عن إطاره، إذا كانت حاجة الاتصال والتعبير تقتضيان وعاء دون آخر، يجب على المؤلف المسرحي ألا يتردد لحظة واحدة، لكن الصراع كان وما زال قائماً لدى المسرحيين، (كتاباً ومخرجين وممثلين ونقاداً) وهو صراع ضميري داخلي قبل أن يكون خارجياً.
ضمن باب (محاولة لتأصيل المسرح العربي) يتساءل د. عصمت لماذا لم يعرف العرب القدماء فن المسرح؟ كذلك تناول بالدراسة ما سماه بعهد الاقتباس والتقليد في ظل استمرار غياب المسرح بمفهومه العالمي، الذي نعرفه اليوم، زمناً طويلاً عن العالم العربي، بينما استمر وجود وتكاثر الظواهر المسرحية الشعبية والتراثية والفولكلورية التي تمت إلى الفنون بأكثر من صلة، وبقي مسرح خيال الظل ووريثه (كراكوز وعيواظ) حيين إلى فترة قريبة نسبياً في مشرق الوطن العربي.
وفي بحثه في معنى التأصيل وأشكاله يطرح د. عصمت عدة تساؤلات معترفاً (ليس عيباً أن نعترف بتشتت أصولنا المسرحية، لأن هذا يعطينا قوة اختيار غير محددة من حاضرنا..) واليوم يعني تأصيل المسرح العربي تجسيد روح الأمة، سواء في تراثها الشعبي من أساطير وحكايات أو حوادث، وعبر تاريخها أو في حاضرها الراهن، ولكن بأشكال تمت إلى الظواهر المسرحية العربية بصلة، في الواقع، إن كلمة (تأصيل) ليست كلمة تتعلق بالشكل فحسب، وإنما يمتد معناها ليشمل المضمون، لابد من تمازج الاثنين معاً كي يتطور فن المسرح العربي، فالشكل يحتاج إلى نزعة تجريبية تستفيد من الظواهر المسرحية دون تقديس للطراز الغربي والمضمون يحتاج إلى جرأة فكرية وصدق في الطروحات والمعالجة.
وعن أزمة المسرح السوري يتكلم د. عصمت بتفصيل وإحاطة ودراية عن واقع المسرح السوري حيث يعود إلى مطلع الستينات، عندما عاد إلى سورية أوائل خريجي فرنسا وأميركا بعد أن كان المسرح محصوراً بنطاق الموهبة الفطرية، والهواية، كان أبرز هؤلاء الخريجين رفيق الصبان الذي تتلمذ على يد جان فيلار فقام بتجميع نواة إبداعية من حوله أطلق عليها (ندوة الفكر والفن) معتمداً على طلبة وخريجي الجامعة في المقام الأول، فضلاً عن بعض الهواة والمحترفين القديرين، وكان هذا منسجماً مع أهداف (المسرح القومي) الذي استحدثته وزارة الثقافة فانضم إليه، ولعب دوراً مهماً في تنشيطه حتى مطلع السبعينيات، وكان المسرح القومي يضم (شريف خزندار) وهو خريج فرنسا أيضاً، وهاني صنوبر وعلى أيدي هؤلاء ولد جيل من الممثلين السوريين الكبار الذين اشتهروا محلياً وعربياً فيما بعد ومنهم منى واصف وثناء وثراء دبسي وهاني وأسامة الروماني وياسر العظمة ويوسف حنا وعديد غيرهم.
د. عصمت يقدم لوحة كاملة وموجزة لحالة المسرح منذ بداية الستينيات حتى يومنا هذا راصداً أهم الأسباب التي مهدت لأن يعيش المسرح السوري (أزمة) ويحدد ملامح الوضع الحالي للمسرح.
من العناوين التي احتواها الكتاب: (دريد لحام والماغوط يزرعان شقائق النعمان ويحصدان الشوك، وليد فاضل عالمية التمرد، المسرح التجاري المصري، ظاهرة في المسرح اسمها محمد صبحي ولينين الرملي، قناعان لصلاح عبد الصبور، المسرح اللبناني ينبعث قوياً من أنقاض الحرب الأهلية، (اسماعيل باشا) عرض مبهر لمحمد إدريس (فاميليا) الكتابة بالتمثيل عند الفاضل الجعايبي..).
الكتاب صادر عن الهيئة العامة السورية بعنوان (المسرح العربي - سقوط الأقنعة الاجتماعية) تأليف د. رياض عصمت - قطع متوسط في 204 صفحات.