ولهذا لا يمكن فصل لوحاته المعبرة عن معان وطنية، عن تداعياته وهواجسه الطفولية، والتي حرر من خلالها الأشكال، وأدخلها في تقنية صياغة الألوان العفوية والرؤية الارتجالية، للوصول إلى الصياغة التلقائية، التي تفسر في النهاية معالم هذا الهاجس الوطني، الذي كان يسكن خطواته، بقدر ما كان يذهب إلى ترجمة انفعالاته وعواطفه وتوجهه التعبيري الطفولي.
هكذا أعاد قراءة موضوع الشهيد قراءة معاصرة، وركز في تأملاته الفنية للمواضيع الوطنية، على أن يكون مجدداً داخل معطيات الحياة وأميناً لها. وهو الفنان الرائد الذي عاش فصول التحولات الفنية الكبرى، منذ المرحلة الممهدة للاستقلال، ويمكن اعتباره من أكثر فناني مرحلة ما بعد الاستقلال جرأة ومغامرة، حيث كان سباقاً في اعتماد اللمسات اللونية الأكثر عفوية في تلك المرحلة، والتي شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية التي كانت سائدة عندنا في تجارب رفاقه الفنانين، وفي الوقت الذي تحرر فيه الوطن من آخر جندي أجنبي، كان فاتح المدرس من أكثر المساهمين بتحرير ألوان اللوحة من الصياغات الواقعية والتسجيلية والتقليدية.
والأشكال الانسانية المبسطة في لوحاته المعبرة عن معاني الشهادة، على شكل خطوط عفوية دائرية أو متوازية أو متقاطعة في اتجاهاتها الأفقية والشاقولية، تشبه إلى حد بعيد، لغة التعبير عن بعض الإشارات السحرية الميثولوجية، التي كانت سائدة في العصور القديمة (فالدائرة المشعة تؤدي دورها كرمز للشمس والخطوط المتوازية رمزاً للحياة المتدفقة)، فقد كان يستعرض تلك العلاقة الحميمية بين اللون والوهج والخط والحركة، ليكشف أمامنا هاجس ارتباطه بالأرض والإنسان والمواضيع الوطنية والقومية عبر رموز المرأة الريفية والطبيعة المحلية والتاريخ الحضاري العريق، وكان يقوم بتنويع المفردات التشكيلية ضمن هاجس إبراز التضاد بين الكثافة والوهج، وبين السكون والحركة، فاللمسة اللونية المتحررة في لوحاته هي منطلق للارتباط بتيارات التشكيل العالمي المعاصر، بينما تظهر رموز التاريخ والفولكلور السوري كأنها مشروع دعوة للعودة إلى الينابيع الحضارية الحية، التي اكتسبتها الأرض السورية عبر آلاف السنين، فالصفة الغالبة على لوحاته تكمن في البحث عن حداثة لتشكيل يتواصل مع التراث والبيئة والحياة.
وكان فناننا الراحل يكشف في ممارسته التشكيلية عن علاقته برموز تأملات الطبيعة التي تطل في لوحاته كأنغام حياتية أو كضرورة حتمية، تستعيد ذكرياته في القرى السورية الشمالية، حيث كل شيء حار وبراق ومتوهج، إنه اللون المشع المستمد من نور ولهب الشمس، أما (الشهيد) فهو رمزالتمسك بالأرض والوطن، هو القوة التي تعني الطريق إلى النصر والخلاص وبناء المستقبل المجيد.
ثلاثية الشهيد
وقدم الفنان نذير نبعة صورة فردوسية، في ثلاثية الشهيد التي تعود الى عام1976 والمعروضة بشكل دائم، في قاعة المتحف الوطني في دمشق، قياس 145*75(اكريليك على قماش) ولقد أنجزها ضمن أسلوبه الخاص الأقرب إلى الواقعية الرمزية، وهي تجسد امرأتين تعزفان لحن الشهيد على الناي، وفي الوسط يظهر الشهيد - الرمز بسيفه العربي،، ولقد جسد هذه العناصر بدقة واقعية تفصيلية، عبر تداعيات المرأة والزهور. وفي هذه الثلاثية نلمس خلاصة مهارته التصويرية ودقته التفصيلية ومنهجه العقلاني، المعبّر عن التصميم المتماسك، الذي يتولد من خلال تدرجات الظل والنور، والرموز المختلفة والمكثفة التي تربط بين تكاوين الأشكال والعناصر. فالتقنية التي أبرزها تكمن في خاصية كونه فناناً واقعياً يعرف كيف يتعامل مع الاتزانات والنسب ويطوّع العلاقة القائمة بين معطيات الواقع ورؤى الخيال الأسطوري. واللمسة اللونية فيها تبدو بعيدة كل البعد عن مخاوف الانزلاق والوقوع في مؤشرات المغامرة المسايرة للطروحات التشكيلية الحديثة.بحيث نستطيع أن نرى التفاصيل مجتمعة، ذاهباً إلى توليف الأشكال الواقعية بطريقة خيالية وأسطورية ورمزية أحياناً، رغم أنه يحافظ في أحيان أخرى، على الجو الواقعي للشكل أو المشهد المرسوم.
وفي (ثلاثية الشهيد) يخاطب نذير نبعة المرأة الرمز والأجواء الشرقية، والمرأة لديه تأخذ شكل الأسطورة تطل لتعبّر عن رؤى الحلم ونشوة حياة الزمن الغابر، وبمزيد من الدراية المهنية والخبرة التقنية في خطوات الوصول إلى إيقاعات التناسب والإتقان في صياغة الأشكال والتفاصيل الصغيرة والدقيقة وبمزيد من العناية والتأني والجلد والصبر الطويل.مع تركيزه في أحيان كثيرة على إبراز التواءات وثنيات الثوب عبر تقنية خاصة، يغلب عليها البياض اللوني، وتصل إلى تغطية مساحات من اللوحة تضفي الحيوية والحركة والأجواء الخاصة على عمله الفني.هكذا ظهرت براعته التصويرية في صياغة الوجوه والأجساد النسائية والأشكال التراثية والتي أبرز من خلالها إيقاعات التوازن والأناقة الأدائية المفرطة في التأليف والتلوين معاً.
الشهيد في أنصاب نحتية
ومن أشهرالأعمال المعبرة عن معاني الشهادة، تمثال الشهيد عدنان المالكي، الذي يتوسط ساحة المالكي في دمشق،والذي أنجزه الفنان الراحل فتحي محمد،، وأبرز من خلاله، مقدرة عالية في النحت الواقعي الصحيح، ووصل إلى حدود التجاوز بإضفاء الحيوية والحركة، وبملامح حية وغنية بالصفات العديدة التي ميزت شخصيته الوطنية.
وتظهر ملامح السمو والمعاني الوطنية، أيضاً في أعمال وتماثيل النحات الراحل عدنان الرفاعي، المعبرة عن مدى صلابة الإنسان العربي، وقدرته على دحر العدوان، وانتزاع الحقوق وتحقيق الأمان، واستعادة حريته الممتدة في جسده وفكره ومشاعره ووجدانه (ولاسيما عمله البانورامي المعبر عن معارك المسيفرة النضالية).
مع الاشارة الى أن تحقيق درجات الشبه الحقيقية، في قسمات وجه الشهيد حسن الخراط، تطلبت من فناننا الراحل، المزيد من التنقيب والبحث المتواصل، حيث استطاع الحصول على بعض الصور النادرة له، والتي ساعدته في إظهار صفات وخصائص وروح شخصيته التي مثلها أو جسدها، بعد تقصي أخباره والإحاطة بجوانب شخصيته وحالته النفسية. ويبقى العمل بحيويته الواقعية شاهداً على متانة اللمسة وقوة الضربة وملامح الشبه والحيوية.
facebook.com/adib.makhzoum