غير أن الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي الذي يعتبر انقلابياً وفق كل المقاييس,وربما هو يعتقد فعلاً أن انقلابيته الاجتماعية في الداخل, ستطلق من جديد (العظمة الفرنسية) في الخارج بصورةٍ عامة, تجنب طيلة الحملة الانتخابية الخوض في تفاصيل السياسة الخارجية حول ثلاث مسائلٍ كبيرة, على الأقلّ, تفرضها عليه المُستجدّات: العلاقات مع الولايات المتحدة, وأزمات في الشرق الأوسط, ووجود فرنسا في إفريقيا.
كلام ساركوزي المتكرر عن القطيعة مع الماضي يتضمن تغييراً أساسياً في السياسة الخارجية. وقبل أن يتسلم الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي مفاتيح قصر الإليزيه, من الرئيس جاك شيراك صباح 16 أيار الحالي, تنشغل باريس بالحديث عن التشكيلة الحكومية المقبلة. وقد تأكدت حتى الآن شخصية رئيس الحكومة التي سيتولاها فرانسوا فيون, والذي شرع في مشاورات مكثفة لتشكيل حكومة مصغرة تقتصر على 15 وزيرا, على أن تصبح موسعة في حال فاز اليمين بالأغلبية في الانتخابات التشريعية المقبلة, المقررة في العاشر من الشهر المقبل.
أما وزارة الخارجية و التي تعرف في فرنسا بال(كي دورسيه),فبعد أن كان المرشح الأبرز لاستلامها آلان جوبيه ,بوصفه أحد المرشحين الذين أسهم في إرساء السياسة العربية لفرنسا إلى جانب الرئيس جاك شيراك في العصر الزاهي لتلك السياسة في التسعينيات, عندما كانت فرنسا تستطيع التحدث إلى دمشق وبيروت والعواصم العربية بلهجة ودية واحدة,فضل هذا الأخير لأسباب عائلية منصباً أقل سفراً, وأكثر استقراراً في باريس مثل رئاسة مجلس البرلمان, على أن تنتقل ميشيل أليو ماري من الدفاع إلى الخارجية.
و يتساءل المحللون الغربيون و العرب هل ستشهد السياسة الخارجية الفرنسية في عهد ساركوزي انقلابا حقيقيا , لجهة تجسيد القطيعة مع السياسة الديغولية ?
رغم نزعته الأطلسية الواضحة ,ودعمه الواضح للكيان الصهيوني ,ووصفه حزب الله وحماس بالإرهابيين ودعمه لحرب أمريكا على العراق, وغير ذلك, ما يشكل قطيعة مع الديغولية بما فيها عهدا ميتران وشيراك, أي مع سياسة خارجية فرنسية مستقلة إلى حد كبير عن الحليف الأمريكي, فإن الرئيس ساركوزي صديق (إسرائيل), لن يكون حرا في إحداث مثل هذه القطيعة. الملف الأول : العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية .رغم أن المراقبين متفقون على أن وصول ساركوزي لرئاسة دولة كبرى في أوروبا (يعوض) واشنطن خسارة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الذي يترك الحكم خلال أسابيع,فإنه لا يمكن تحسس التغيير الذي ينتظر فرنسا إلا بعد فترة قصيرة من وضع آلية الحكم.
من الصعب جدا تسمية الرئيس المنتخب( محافظا جديدا) على طريقة(المحافظين الجدد) الأميركيين,لأن اختلافات عديدة تفصله عنهم,و لأن فرنسا لا يمكن أن تنتج(صورةطبق الأصل) ل(المحافظين الجدد).فساركوزي هو أقرب إلى (رونالد ريغان) و(مارغريت تاتشر) في حماسه لأحداث (ثورة ليبرالية) تقود إلى تخفيض الضرائب عن الأغنياء والشركات الكبرى, وإطلاق قوى السوق اللبيرالي من عقالها, وتعديل قوانين العمل,و قلب النظام الاجتماعي الذي أسسته فرنسا منذ قرنين, والذي استند برمته إلى الدور الريادي للدولة في الاقتصاد والإدارة والمجتمع رأساً على عقب.
الرئيس ساركوزي سيكون مثل سابقيه محكوماً بسقف التقليد الخاص للدبلوماسية الفرنسية, كما كان قبله فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران, اللذان عرفا لحظة انتخابهما بالانتماء الى الأطلسية ما بعد الديجولية وبالتأييد المفرط ل(اسرائيل)واللذان سرعان ما وجدا نفسيهما في إطار إرث ديغولي لم يحيدا عنه في سياساتهما الخارجية. ينبغي عدم المبالغة في قدرة الرئيس الفرنسي على صياغة سياسات خارجية وطنية بمفرده.
الملف الثاني :العلاقة مع (إسرائيل). أشاع فوز نيكولا ساركوزي برئاسة فرنسا أجواء من الارتياح في(إسرائيل)على المستويين السياسي والإعلامي, بحيث أجمع المسؤولون الصهاينة في الحكومة والمعارضة, على وصفه ب(الصديق), وهذا ما عكسته الصحف الإسرائيلية أيضاً التي اعتبرت أن وصول المرشح اليميني إلى الإليزيه (ثورة فرنسية)تصب في مصلحة اسرائيل.
الملف الثالث: أزمات الشرق الأوسط: . مفهوم (التهديد النووي الإيراني)لا إجماع حوله في الغرب , بدليل زلة لسان شيراك عندما قال مؤخرا إن القنبلة النووية الإيرانية الافتراضية لا تهدد أحداً ولا حتى (إسرائيل). وقد نجح ساركوزي في إجهاض عزم شيراك على إيفاد مبعوثين للتفاوض مع طهران, فكشف عن موقف راديكالي متضامن مع واشنطن. فهو يعتبر أن امتلاك إيران أسلحة نووية أمر غير مقبول, بيد أنه يفضل حل الأزمة النووية الإيرانية عن طريق المفاوضات في إطار متعدد الأطراف.
* كاتب تونسي