تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مسـيرة في الغــبار

كل أربعاء
الأربعاء 8-2-2012
سهيل ابراهيم

ضاقت الخيارات أمام المثقفين العرب في غبار العاصفة التي تهب على الأمة منذ أكثر من عام وضاقت العبارة على ألسنتهم دون أن تتسع رؤيتهم، فكثيرون منهم آثروا الصمت،

واكتفوا بأبصارهم شريكاً محايداً فيما يحدث، وبعضهم انخرط في دورة الدوامة وتنقل على محيطها مستلباً من مأزق إلى مأزق، بعد أن اجتاز خط الرجوع، وأسلم مصيره للمقادير، وقلة هم الذين نجوا بأنفسهم من ارتشاف هذا العسل المسموم الذي يدور كأسه علينا، طوال هذه الأشهر المخمورة الماضية، هذه القلة اعتصمت برؤوس باردة، تنسق أسئلتها باتزان، كي تعثر على الأجوبة الشافية التي تكاد تضيع وسط هذا المحيط المضطرب!‏‏

المنخرطون في الترويج لعواصف التغيير، من المثقفين العرب، يعتقدون أن ما حدث ويحدث من مغرب العرب إلى مشرقهم، هو قيامة عربية سوف تمحو كل ما قبلها من ظلمة وانحطاط وتكتب بالحبر الديمقراطي فصول ما بعدها من التاريخ، وصولاً إلى الازدهار والنهضة وقيام المجتمع المدني الحر المتعدد الذي لا تنحني رؤوس مواطنيه إلا لسيادة القانون، ولعل ذلك الاعتقاد الذي ينظر له بعض الأعلام من المفكرين العرب، هو اعتقاد مرتبط بشكل هذه القيامة وطقوسها الثورية التي فاضت بها شوارع تونس ومصر بادئ الأمر، دون أن يتطابق هذا الشكل مع مضمون هذه القيامة التي بات من حقنا أن نسأل عن رعاتها ومكوناتها ومراميها القريبة والبعيدة، والمستفيدين منها والمتسلقين على ظهرها، إذ لا يكفي أن تغص شوارع العرب بمطالب التغيير على أهمية هذه المطالب، بل لا بد من استجلاء حقيقة الوجهة التي يمضي هذا التغيير نحوها، وفي أي بحر سوف تصب أنهاره، كي نصطف معه أو ضده بكامل وعينا وإدراكنا!‏‏

يقال لك إن هذه القيامة ما زالت في طور المخاض، وإن المشهد لم يكتمل بعد فإن ما يجري هو تحريك شجاع لمياه البحيرة العربية الراكدة، وأن الثورات في التاريخ أخذت وقتها حتى بلورت مضامينها واستقرت على قواعدها الراسخة، ولعل كل ذلك صحيح في المبدأ لكن الصحيح أيضاً أن هذا المخاض بمواليده المبكرة لا يدل إلا على التشوه الذي بتنا نلمسه لمس اليد في الساحات التي قدمت لنا الشكل النهائي لأجندتها كالساحة التونسية، والتي تكمل اضطرابها وتشرذمها كالساحة المصرية، والصحيح أيضاً أن تحريك المياه العربية الراكدة هو مجرد وسيلة، فما الهدف المرتجى، ومن يحرك هذه المياه، ثم من سيرسم شكل هذه البحيرة في خاتمة المطاف، وكم سننتظر حتى نعثر على موقعنا في كل ما يجري، طالما أن هناك من ينوب عنا رغم إرادتنا في الدفع بمصيرنا نحو مجاهيل لا يدرك أسرارها أحد!‏‏

نعم نحن تواقون إلى التغيير، ونحن من دعاة الانتقال إلى المجتمع المدني الديمقراطي في كل كيانات العرب، ونحن من المروجين لأفكار الحرية وتعدد الخيارات السياسية في مجتمعات متجددة نختار أنظمتها السياسية وسائر مؤسساتها التشريعية والتنفيذية بإرادتنا الحرة، لكننا في نفس الوقت بتنا نشتبه في تغيير يضبط إيقاعه على مطالب نخب سياسية تدلي ببيانها السياسي من قاموس الغرب الاستعماري، وتعقد معه التحالفات المريبة، وتنام على وسائده، وتضمن له مصالحه، وتسلم له زمام قيادتها بلا قيد أو شرط!‏‏

ولأن الصورة باتت تفرز كل هذه الملامح فهل يستطيع أحد من المثقفين المنخرطين في لعبة الترويج لهذه القيامة العربية الملتبسة، أن يدلنا على موقع فلسطين من كل ما يجري، وأين موقع الوحدة العربية وضرورتها لكل نهضة أو ازدهار، وأين موقع الصراع التاريخي مع الغرب الاستعماري المهيمن عسكرياً واقتصادياً على معظم كيانات العرب السياسية، وإذا كانت الأجوبة عن كل هذه الأسئلة مؤجلة أو مستحيلة في هذه الأوقات، فعن أي قيامة نتحدث، وبأي وجهة نطلق خطواتنا، وأي مصير ينتظرنا، ونحن نمشي معصوبي العيون من غبار إلى غبار!‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية