تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


والرائد لايكذب أهله: عبد السلام العجيلي: الحكواتي الذي يشبه نفسه

ملحق الثقافي
11/4/2006
بشير عاني

«لنتصوّر أنفسنا في بلدة صغيرة على تخوم البادية السورية ليس لنا ما نُسلِّي به أنفسنا به الوقت غير أصائل وأمسيات رطبة الظل ندية النسمات نقضيها مجتمعين في مقهى صغير نتبادل أطراف الحديث ويقصُّ كل منا على الباقين ذكريات حياته الماضية في مدن كبيرة يكُسبها بعدها عن البلدة الصغيرة التي نحن فيها سحراً ليس لها وحنيناً لم يكن »

هكذا كتب جورج طرابيشي مرة عن الأديب عبد السلام العجيلي، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث فقط عن الراحل العجيلي إذ لن يكتمل الكلام ما لم نلتفت الى البيئة والمناخات الخاصة التي أحاطت ومازالت بالرقة والتي كان لها دورها البارز في إنجاب حكواتي بارع كالعجيلي ،‏

مثلما كان لها الدور نفسه، فيما بعد، في تقديم أجيال ناجحة من القاصين والشعراء. والرقة، هذه المدينة المفتوحة لاحتمالات كثيرة أهمها السحر والميثويولوجيا مازالت ببساطتها المعتقة في النفوس قابعة في حضن البداوة رغم أيادي المدنيِّة التي تشدها من قميص أيامها منذ عقود طويلة. الرقة،هذه التي أغوت الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة على التمرغ فوق عشبها منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك.. ومنذ ربيعة الرّقي وأبي تمام وأبي النواس وغيرهن.. «رقّة» التاريخ هذه التي أغوت كل هؤلاء مند عهود طويلة، هي نفسها التي تمارس الإغواء حاضراً وتستدرج العظماء والكبار الى رملها وعشبها وزواريبيها وبيوتها الطينية كما فعلت مع أجاثا كريستي وزوجها عالم الآثار الشهير حين قررّا إسالة عسلهما (عسل الزواج) فوق ترابها وخلط أنفاسهما برائحة الشمال السرمدية ،ومثلما فعلت مع العجيلي، ابنها، حين أغوته بترك وزارته وسفارته، تاجه وصولجانه، والعودة إليها، لتمدّده على ركبتيها، تُهدهده، تُدلّله، حتى آخر أنفاسه.. ياللرقة.. كم كان لها، هذه الصغيرة، المُلفَّعة بالنسيان، أن تُحدّد، في لحظات ما، أقداراً ما لسورية..؟! أجل.. فمنها سيعود قائم مقامها، الجنرال رمضان شلاش (ضابط ديري الأصل، غادر الجيش التركي لينخرط في ثورة الشريف حسين) عشائر الفرات في ثورة ضد الوجود الانكليزي . فيها أيضاً سيروّض الفرات، ولأول مرة في تاريخه، من خلال السدّ الذي سُيدخل البلاد في مشاريع كبيرة كالاستصلاح والتنمية الزراعية.. ومنها أيضاً سيطلق شاب مغمور اسمه عبد السلام العجيلي العنان للحكاية الادبية في سورية مستحقاً، فيما بعد، كل هذا اللغط حوله مدحاً وتعريضاً، وهكذا هو حال الروّاد دائماً. والرائد لايكذب أهله، من هنا كانت الرقة بناسها الطيبين، بتبدِّيها ، بطينها، وزورايبها وبيوتها المكتظه بالطيبة ورائحة العائلة، بخرافاتها وأساطيرها وعوالمها المسحورة، نبتة في النسيج الأدبي الذي حاكه العجيلي على مدار نصف قرن تقريباً، بل إن هذه كانت أولى الالتقاطات النقدية للأديب ابراهيم الجرادي حيث يكتب في مقدمة كتابه الذي أعده عن العجيلي«إن الخرافة والاساطير والمعتقدات الشعبية استثمارات مشروعة ومخزون صالح كبير، يمتح منه مبدعو الواقعية الاشتراكية والواقعية الرومانسية وتظهر ظلالها الكبيرة في ابداعات ماركيز وايتماتوف وغيرهما كعناصر توسيع لدائرة القص وإغناء لمحمول الحكاية كمنافذ احتمالات لحلول ابداعية مفتوحة..». إن العجيلي مكسب لبيئة في صياغتها الأدبية مثلما هي بأساطيرها وخرافتها وحكايا مواقدها ، مكسب فني، اسلوبي في صياغتها ومضامينها لاسيما وانه منحاز لأفضل مؤثراتها المتوارثة كمعادل كفؤ للذات الابداعية في محاولاتها الدائمة لصياغة البحث عن معنى الحياة وجدواها، عن الغامض وأسرار ظواهراه التي تستعصي على التفسير. منذ الاربعينات والعجيلي يلتقط الرقة قطعة قطعة ليُعيد تشكيلها في مشهد أدبي حير النقاد في توصيفه، فهو واقعي، رومانسي تارة وهو تقليدي تارات.. وهو أيضاً غيبي، قدري ميّال الى الغرابة والخيال العلمي.. والعجيلي كاتب إشكالي طارده النقاد حتى داخل جدران عيادته في الرقة، تفحّصوا تجربته، مدحوه واتهموه، ولكن، وفي كل ما كتبوا عنه، كانت قلادة الريادة على صدره، وكانت الرقة عصاه التي يتكىء عليها ليواجهه بها ركام الكلمات، كيف لا وهو الذي هجر دمشق بمغرياتها، مستقيلاً من الوزارة ،رافضاً فرنسا وسفارتها، ليعود اليها.. الى هذه الصغيرة الساحرة« إن لي سفارة تنتظرني في الرقة.. إنها عيادتي..». أما عن برجه العاجي الذي يعيش فيه، فكان ردّه على المتهمين بسيط جداً: «تعالوا وانظروا في أي برج أعيش، أنا عائش في برج من الوحل. الرقة بلدتي وأنا أغوص في طينها..» والعجيلي ،ورغم شهرته الواسعة ،ورغم سبع روايات وثلاث عشرة مجموعة قصصية وتسعة عشر كتاباً في أدب الرحلات والملاحظات الاجتماعية والسياسية وديوان يتيم في الشعر، ظلَّ يصرُّ على عدم منح الأدب من نفسه وحياته أكثر مما فعل، وظلَّ يصرُّ على وضع نفسه في حقل الأديب الهاوي، بل إنه يفضّل صفة الطبيب على صفة الأديب. إلاّ أن النقد الأدبي يرى مالايراه العجيلي في نفسه، إذا اعُتبر الرجل واحداً من رواد القصة القصيرة في سورية، كما نُظر الى مجموعته القصصية الأولى( بنت الساحرة) كمنعطف حي في تاريخ القصة القصيرة في سورية، إذ يكتب د.حسام الخطيب مرة« لم تكن هذه المجموعة إعلاناً عن ولادة كاتب قصصي عظيم فحسب، بل كانت اعلاناً عن بدء استواء فن جديد متميز في التجربة الأدبية في سورية، فحين صدرت هذه المجموعة لم تكن هناك سوى تجارب أولية لكتاب رواد مثل علي خلقي ومحمد النجار ومعروف الأرناؤوط ووداد سكاكيني وأديب نحوي وشكيب الجابري وفؤاد الشايب، ومن هنا لابد للمرء من التأكيد باستمرار على أن مجموعة بنت الساحرة تحتفظ بقيمة تاريخية كبرى بالاضافة الى قيمتها الفنية..» ليكتب النقد ما يشاء، هذا هو ردُّ العجيلي الذي ظلَّ على الدوام، مصراً على طرح وجهة نظر مخالفة حول مفهوم الريادة التي لم يرها أبداً متحققة فيه« إن الرائد هو الذي يفتح طريقاً لمن يأتي بعده، وأنا في الواقع لم أفتح طريقاً إلا لنفسي.. الرائد الحقيقي هو فؤاد الشايب..». إذا كان هذا هو رأي الأجيال اللاحقة من كتاب القصة في سورية، وفي الرقة خصوصاً سيما وقد برز العديد منهم مؤخراً كما صارت لهم تصورات وأفكار خاصة في أدب العجيلي وتأثيراته، وفي الأدب عموماً، هذا ما سنسعى لاحقاً لمعرفته ووضع أيادينا عليه.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية