ولم يعد مجدياً بالنسبة للدول والمجتمعات التي تحاول تنمية اقتصادياتها واللحاق بركب التقدم العلمي تجاهل هذه الحقائق، أو التأخير في أخذها بالحسبان.
فقد صدر في عام 2005 تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) عنوانه: (من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة)، وقد ورد فيه تحت عنوان: (لا يمكن اختزال مجتمعات المعرفة إلى مجتمع معلومات )، بأنه لا ينبغي لبروز مجتمع عالمي للمعلومات باعتباره ثمرة التكنولوجيات الجديدة أن ينسينا أنه لا يصلح إلا وسيلة لتحقيق مجتمع حقيقي للمعرفة، فازدهار الشبكات المعلوماتية لا يمكن له وحده أن يقيّم قواعد المعرفة، لأنه إذا كانت المعلومات فعلاً وسيلة للمعرفة، فليست هي المعرفة.
تتميز مجتمعات المعرفة بأن المعارف فيها تشكل أهم المكونات التي يتضمنها أي عمل أو نشاط وخاصةً فيما يتصل بالاقتصاد والمجتمع والثقافة، وكل الأنشطة الإنسانية الأخرى التي أصبحت معتمدة على توافر كمٍّ كبير من المعرفة والمعلومات.
لقد أصبح التفجر المعرفي سمة العصر، وتحول إلى سلاح للسيطرة مع ما تتسم به المعرفة في عصرنا من سيولة وقدرة على الانتشار وتخطي الحدود.
إن من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعاتنا العربية هي ردم الفجوة المعرفية والمعلوماتية بيننا وبين الدول المتقدمة، ومن ثم نشر وتعميم التعليم، والسعي لإنتاج المعرفة وتوظيفها بكفاءة في النسيج المجتمعي.
فما هو مجتمع المعرفة ؟
لقد أدت القفزة المعرفية التي نشهدها اليوم إلى بروز معطيات جديدة للمجتمعات الإنسانية، لم تعرفها المجتمعات السابقة. وهكذا برز تعبير «مجتمع المعرفة» بحلةٍ جديدة حاملاً هذه المعطيات في صفاته، ومتطلعاً إلى تعزيز الإمكانيات المعرفية، والعمل على الاستفادة منها في تطوير المجتمعات الإنسانية.
ولعل من أبرز أمثلة الاهتمام بمجتمع المعرفة ما يقوم به الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، ففي مؤتمر القمة الأوروبي الذي عقد في لشبونة عام 2000، اتخذت قرارات لدعم التوجه نحو بناء المجتمع المعرفي وتطويره، والاستفادة من معطياته.
وعلى المستوى العربي فإن من أبرز أمثلة هذا الاهتمام التقرير الثاني للتنمية الإنسانية العربية الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والذي حمل شعار «نحو إقامة مجتمع المعرفة»
إن مجتمع المعرفة في هذا العصر هو المجتمع الذي يهتم بدور المعرفة، ويوفر البيئة المناسبة لتفعيلها وتنشيطها وزيادة عطائها، بما في ذلك البيئة التقنية الحديثة بشكلها العام، وبيئة تقنيات المعلومات على وجه الخصوص بما يساهم في تطوير إمكانات الإنسان، وتعزيز التنمية، والسعي نحو بناء حياة كريمة للمجتمع.
لقد ظهر مفهوم مجتمع المعرفة لأول مرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما كانت تحدث نقاشات ساخنة بخصوص التناقضات والعيوب والعقبات التي تواجه المجتمع الصناعي، ومن هنا فقد بدأ المجتمع الحديث في التركيز على المعرفة ووظيفتها، وقد وضع «نيكوستر» المفهوم التالي إن النظرية الخاصة بمجتمع المعرفة والتي تركز على الوظائف المعرفية باعتبارها نتاجاً جديداً يحل محل رأس المال، حيث إنها تمثل عنصر إنتاج تقليدي، ولقد شاع استخدام مفاهيم متصلة بمجتمع المعرفة، مثل (الصناعة والتكنولوجيا المعرفية). وكلما مر الوقت دخلنا في مجتمع المعرفة بصورة وعمق أكبر.
يتشكل كل مجتمع حسب مجموعة من المفاهيم المشتركة، وقد أدت العولمة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات إلى تكوين مجتمع عالمي يتمتع بمعرفة مشتركة حول كل الموضوعات والإمكانيات، وقد كانت الموارد المادية والعمليات التحويلية الخاصة بها (أي الموارد الاقتصادية) هي الأساس الذي قام عليه النمو الاقتصادي، فيما كانت أمور أخرى مثل الموسيقا والفن وامتزاج الثقافات (أي الموارد الثقافية) هي العوامل التي دفعت على النمو في المجتمع بأسره.
ومع وصول المجتمع إلى مرحلة النضج أصبحت هذه المعرفة متاحة في الوثائق والقوانين المكتوبة والقوانين غير المكتوبة وآراء الناس ومعتقداتهم، والكلمات التي يستخدمونها في كل لغة وما إلى ذلك وكما هو الحال من حيث غياب التوزيع العادل للموارد المادية والاقتصادية ما أحدث نوعاً من عدم المساواة داخل المجتمع، فقد أدى عدم توزيع وإتاحة وتقاسم المعرفة بشكل متساوٍ إلى إعاقة التنمية.
تدرك مجتمعات المعرفة أهمية وجود المعرفة وبنائها وتقاسمها وتوزيعها بشكلٍ ملائم من أجل تنمية المجتمع.
إذاً ما الأمور التي تقودنا إلى الدخول في مجتمع المعرفة ؟
1- التطور السريع للعولمة وانتشارها: فبعد أن تم تشكيل المنظمة العالمية للتكنولوجيا WTO أدى ألى اتساع سوق العمل الدولي وزيادة التبادل الفكري والبشري والمادي، وتطوير أساليب الاتصال المعرفي أو المعلوماتي الجديد، وأيضاً التطور المستمر للتكنولوجيا، حتى إن البعض رأى أن ظاهرة العولمة تعتبر مثل المحرك أو الدينامو الذي يقوم بتوليد المعرفة و نشرها.
2- في ظل التطور السريع للمعلومات، يعتبر مستوى اكتساب المعرفة آلية القياس التي تستخدم في قياس وتقييم مستويات الكفاءة الإنتاجية والثقافة الخاصة بالأفراد والمؤسسات، وبالتالي فإن المعرفة والتكنولوجيا هي من الأساليب التي تم تصميمها لزيادة عمليات الكفاءة الإنتاجية، وزيادة الاستفادة من المعلومات المتاحة
3- تغيير شكل وفرص وأهداف العمل، فمنذ أن فقدت المعرفة والخبرة في بعض المجالات قيمتها بصورة تدريجية كلما مر الوقت، فإنها تحتاج إلى أن تستمر، وأدت إلى تعزيز دور الخبرة والمعرفة في العمل.
4- تغيير نظم التعامل المعرفي وتغيير تركيزها: فلو افترضنا أن المعرفة ضرورية جداً للمجتمع، وللخبرات الاجتماعية، فحينئذ يجب أن تكون هناك أسس خاصة لتقديم مفهوم مجتمع المعرفة اليوم، فالسبب الرئيسي هو نظم التعامل المعرفي وتركيزها في المجتمع الحديث
5- الزيادة الكبيرة للمعرفة، فهناك تنبؤات مستقبلية تشير إلى أن المعرفة ستتضاعف كل ثلاثة وسبعين يوماً بحلول 2020، وأن الأفراد سوف يستخدمون 1٪ فقط من المعرفة الحالية بحلول 2050
فمجتمع المعرفة إذاً حالة من الامتياز الفكري والمعرفي والتقني ومن التقدم العلمي والبشري، الأمر الذي شجع بعض المتخصصين على وصفه بالثورة المتعددة المعاني والاتجاهات.