تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عيـــادات تجميــــل تعيــــــد للذاكــــــرة رشـــــــاقتها..

ثقافة
الخميس 16-10-2014
 سوزان إبراهيم

تقول الحكاية: إن غولاً ضخماً كان يسرق أطفال القرى ويذهب بهم بعيداً إلى قصره في أعالي الجبال. لكن أحداً من الأهالي لم يجرؤ على البحث عن الأطفال,

إلا رجل استبد به الحزن على أصغر أبنائه وأجملهم إذ اضطر لإنقاذ بقية العائلة أن يترك طفله ذاك للغول. ولأن أهل القرية اتهموه بالجبن, غذّ السير نحو الجبال العالية قاصداً قصر الغول دون خوف مصمماً على قتله بمنجله.‏

تكمل الحكاية: بعد حديث بين الرجل والغول, وقد أعجب الغول بشجاعة الأب الباحث عن طفله, قاده الغول إلى نافذة تطل على حدائق رائعة ورأى أطفالاً يلعبون ويمرحون وكان بينهم ابنه الصغير والجميل. تمنى الرجل على الغول أن يعود بابنه إلى القرية, لكن الغول وضعه أمام خيار صعب للغاية: هل ستحرم طفلك من هذه الجنة وتعود به إلى الفقر المدقع الذي تعيشه ليموت جوعاً أو عطشاً؟!‏

بعد تفكير وألم ترك الرجل طفله وعاد حاملاً يأسه وضعفه. أعطى الغول الرجل زجاجة صغيرة وقال له: في طريق عودتك اشرب ما فيها.‏

تختم الحكاية: حين وصل الرجل إلى قريته النائية الفقيرة, لم يتذكر شيئاً من كل ما جرى معه.. لقد نسي كل شيء, حتى إنه كان يرتعش كلما ذكر اسم ابنه أمامه دون أن يتذكر لماذا, وهل يعرف طفلاً بهذا الاسم!‏

هل ستترك طفلك في جنة الغول, كي تضمن له حياة أفضل مقابل أن تنسى كل شيء عنه إلا ما يحرق وذكرى ضبابية كمن استيقظ من حلم وفقد كل أجزائه لكنه مازال يتذكر ما عاناه هناك في أرض الحلم.‏

هل النسيان جنة؟‏

في أزمنة الوجع يبدو النسيان دواء وعلاجاً لحرائق قد تشتعل هنا أو هناك, وأنت تفتش رفوف الذاكرة إذا ما حافظتْ على محتوياتها بثقة وكفاءة. في أزمنة الحرائق المشتعلة حولك والتي أتى بعضها على أشجار عمرك, ستكون زجاجة كتلك التي أعطاها الغول للأب دواء ناجعاً على مستوى ما, دون أن يكون كافياً تماماً.‏

هل يشبه النسيانُ جاره الإهمال؟ هل الإهمال هامشٌ والنسيان متنٌ؟‏

هل نسعى للنسيان أم أنه هو من يدهمنا! وحين نهمل شخصاً أو أمراً هل نحيله إلى قائمة انتظار دوره لدخول مملكة النسيان! متى يكون النسيان طبيباً ومتى يكون لعنة؟‏

قد تكون أرض الإهمال من أكثر الأراضي خصوبة, حيث ينمو فيها كثير من الأحراش والخمائل والأعشاب وربما الأزهار.. في الإهمال ثمة ما يزدهر دون قصد منّا.. وإن لم تتحول المهملاتُ إلى نسياناتٍ, فقد تصير وحشاً يخرج من منطقتنا الظليلة والمنسية.. قد يغدو غولاً يطالب بأثمن ما لدينا.‏

في حكاية أخرى تقول: في أمكنة الوجع الاستثنائي تزدهر عمليات تجميل الذاكرة, إذ مع كل الحمولة الزائدة فيها من الوجع والأحزان والفقد تترهل وتعيق نشاط صاحبها, لهذا يتم إحداث ثقوب صغيرة ناعمة تتسرب منها بهدوء محتويات الذاكرة السمينة لتعود إلى رشاقتها وخفتها الأولى.‏

كم شخصاً يبحث هذه الأيام عن عيادة لتجميل الذاكرة! لشد جلدها المترهل! لشفط دهونها الزائدة هنا وهناك! كم شخصاً سيتخصص في جراحة وتجميل الذاكرة إذاً وهي تجارة باتت نشطة وتعد بأرباح وفيرة!‏

هل ننسى حقاً؟!‏

يعني حين ننسى أمراً هل نفقده إلى الأبد, أم أنه من الممكن لو جاء راوٍ قدير يحكي لنا ما نسيناه سنتذكر ويجتاحنا الحنين؟! هل يمكن استعادة المنسيات حين نشتاق إليها رغم كل شيء؟‏

لو أُجبرتَ على ترك حياتك السابقة خلفك, هل ستنسى- حين تنسى وبكامل إرادتك- كل شيء عنها؟!‏

هل نكسب أم نخسر في لعبة النسيان.. بل من يكسب ومن يخسر؟!‏

حين تتفقد رفوف ذاكرتك وترى فراغات هنا وهناك, هل تتألم أم تشعر بحنين.. أم أنك لم تعد تلاحظ حتى تلك الغيابات؟!‏

خطر لي أن أمارس هواية جمع المنسيات.. سأتجول في شوارع المدينة.. وألتقط كل ما رماه الناس خارج أبواب حيواتهم.. وقد أنشغل لوقت طويل في تصنيفها وترميمها وصنع إطارات جميلة لها.. ثم أعمد إلى إقامة معرض لكل هذه المقتنيات.‏

سيدهشني أن يأتي إليّ شخص ويشتري مني منسياته أو بعضاً منها.. تلك الأقرب إليه.. هكذا ستغدو منسيات الناس تحفاً قد يعودون لشرائها مرة أخرى ويتوبون عن نسيان حتى أكثر اللحظات مرارةً.. لأن بعضهم رأى أنه بذلك النسيان قد خلع ما كان يستر عري روحه..‏

فالألم جزء حميم كذلك من حياتنا.. هكذا تقول حكاية الحياة!‏

suzan_ib@yahoo.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية