إنها رؤيةُ كل من شعرَ وعلى مدى السنوات التي عشناها وتفاقم فيها الجهل والحقد والعنف والظلام والتطرّف والتشظّي في المجتمعات العربية، بأن الوجع الأكبر من كلِّ هذا هو «الأنانية التي تسعى، وعلى حساب دمِّ الإنسان وحبات تراب الوطن، لخلقِ فرصٍ قبيحة وانتهازية- شخصية»..
هي أيضاً، رؤية «مجدي صالح».. الطبيب والروائي والباحث التاريخي اليمني، الذي كان قد وثَّق كل ماذكرناه في «رجل السماء الأول». الرواية التي ومثلما كان شاهداً فيها على اندلاع الحرب وبشاعتها، كان شاهداً على اتِّقادها في «2011»، حيث الجزءُ الثاني من حرائقها وويلاتها.
«نحنُ بشر نلدُ أشباهنا رداءة، وأشباهنا المقتولين بأيدينا، والمصلوبين في أعناقنا.. نلد اللاقلوب واللاعقول واللاأوجه.
يا ماضينا الأسود، ها نحن صرنا أبناء أنفسنا!. ظلاماً من فوقه ظلام ومن تحته ظلام.. نستهدي الطريق في سراديب الهلاك، في صور الفبركة وسراديب الشيطنة، وفي الدعاية الملتوية، وفي إشاعتنا الخجولة من الإشاعات»..
هذا ما اخترناه من رواية وإن كانت عميقة في رؤاها الفلسفية، إلا أنها أعمق في تفاصيلها الواقعية.. الرؤى التي توافقت مع عديد الأمثال والأقوال المقتبسة عن أدباء وشعراء وفلاسفة ومفكرين وسياسيين وفيزيائيين، وتفاصيل الأحداث التي بدأت عام «2011» ولم تنته، ولأنها اقتادت العالم إلى اقتتالاتٍ ونزاعاتٍ وانهياراتٍ داخلية..
«هكذا هي الحرب الداخلية موجعة تماماً، وهكذا هو الإنسان العبثي».. الحرب التي اضطرَّ «صالح» لتبيان فداحة انعكاساتها، باستدعاء مقولة الفيلسوف اليوناني «شيشرون»: «عندما تبدأ الحرب تصمت القوانين». استدعى هذه المقولة، ليعقِّب بعدها: «لقد صمتت القوانين والأعراف والإنسانية والدين وبُعثت العبودية..».
نعم.. هكذا هي الحرب، وفي الواقع كما في الرواية التي تقصّد الكاتب ألا يذكر اسم البلد التي دارت فيها أحداثها، ولأنه أراد لكلّ من يقرأها ولاسيما في العالم العربي، أن يشعر بأنها تدور في بلده، وبأن أشخاصها هم أفراد مجتمعه, أن يشعرهم بذلك، وكمتابعٍ ومحلّل حيادي. لكنَّ رأيه، وعلى رأي المثل البوليني:
«عندما تبدأ الحرب، يفتح الجحيم أبوابه».. هو اعتقادٌ في بولينا. لكن، بالمقارنة مع العقل هنا ومفهومه الديني الملوث بالدجل السياسي، «عندما تبدأ الحرب تفتح الجنة أبوابها»، وهنا اختلاف الثقافات في عصر الحياة وتقديسها. ثقافة تكره الموت وتراه طريقاً للجحيم، وثقافة تقدس الموت وتراه طريقاً للجنة»..
إنه رأي «صالح» الذي لابدَّ أن يشعر كلّ من يقرأه، بأنه يقوم بممارسة اختصاصه الطبي، وبوضع المجتمع على طاولة التشريح الأخلاقي والبحثِ عن مكمن الداء فيه. أيضاً، بالاعتراف ولدى شعوره بأن هذا الداء قد تفشى في جسد المجتمع، بأن لا أمل من استئصاله، ولا يمكن إلا لمعجزة أن تشفيه.
«للفساد رجالاته وله مناصرون كُثر وجماهيرَ عريضة، وهو ليس وباء لنكافحه، بل عدوان نحاربه، وهو ليس مالياً فحسب، فله أوجه عدة، ابتداءً من فساد الوقت والانتهازية مروراً بالفساد السياسي والإداري، وانتهاءً بمناصرة المجرم في الحرب حتى ولو بكلمة.»
يبحث في كل هذا، لينتقل إلى أحوال مجتمع ما بعد الحرب، ومن الناحية السيكولوجية.. المجتمع الذي على إنسانه مواجهة التحديات وتقديم الحلول التي تمكّنه من ترميم ما انهدم في حياة مأساوية».
«الشعب يعاني من المآسي والآلام النفسية الناجمة عن الحرب التي نشبت في أغلب المدن، وفي كلِّ شارع وحارة، ولسنوات أفقدت الناس الأمل وسبل الحياة النفسية والطبيعية..»..
حتماً هناك حلول.. لكن، أين هي في زمنٍ أطاح الغباء فيه بكلِّ أنواع العقول؟! أين هي في عصرٍ كلّما تسارعت التكنولوجيا الرقمية فيه، كلّما انعدمت العقلانية والإنسانية والأخلاقية، واستشرت الفتنة والأكاذيب والتحريض الإعلامي، ولاسيما على الفضائيات ووسائل التواصل الإلكتروني؟.
كلها أسئلة، لم يطرحها إلا ليفضح وقبل الإجابة عليها، العقول المتخشِّبة والمُستلبة، والبدائية والغوغائية، ولكثيرٍ من المسؤولين ورجال الدين والمثقفين والإعلاميين والمنتفعين، وسواهم ممن عراهم بقوله عنهم: «الجهل ينتصر دوماً ويحقق ارتجاجات مأساوية، ومادامت السلطة الإعلامية بيدِ الغوغاء لا المثقفين القلائل، فليست الأمور مبشِّرة بالخير.. من الجولة الأولى يُهزم النور».
نعم، الأمور ليست بخير «لأن العالم العربي يعيش فوضى إعلامية، وزد على ذلك سيطرة العشوائيين والأغبياء على الإعلام الاجتماعي، وتحوّلهم إلى موجِّهين وقادة افتراضيين للشعوب والنخب، حتى على المستوى الثقافي المزور»..
أما عن الحلول، ومن أجلِ ألا يغرق عالمنا أكثر وأكثر في الجهل والانحطاط والتدهور واستلاب أو تغييبِ العقول: «ببناء العقل العلمي، ونقل الفرد من ماضي القبيلة والفكر البدائي، إلى التشاور واحترام الرأي، وخطاب التعايش والاعتراف بحق الحياة لأبناءِ مختلف الأديان والمذاهب والانتماءات والتوجهات.. بتعطيل فتاوى التكفير والسبي والقتل، وبتحطيم التابوهات...»..
باختصار، هي رواية مثلما عشنا جميعاً تفاصيلها التي أوجعتنا، قرأنا جميعاً حقائقها التي تحتوي على رسائلٍ، هي ذاتها رسالتنا: «تبقى لهذه الأرض زهورها، وربيعها الحقيقي، وأشواكها نوقدها حطباً.. الأرض باقية، والشعب باق، والحياة مستمرة وإن كره الكارهون..
أوطاننا تركض وراءنا ونحن نركض باتجاهنا.. سوءاتنا في عقولنا، وعقولنا في سوءاتنا.. نحن أبناء السوق السوداء، نبيع أكبادنا فيها، ونتنافس فيما بيننا من هو الأكثر سوءاً..».