|
|
في مغزى فوز بوتين ودلالاته روسياً ودولياً شؤون سياسية في الحقيقة لم يغادر بوتين مسرح العمل السياسي، الحزبي، الحكومي، منذ رفضه الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزاماً منه بالدستور الذي يمنح تمديد فترة الرئاسة لولاية واحدة. (رغم العديد من الدعوات الحزبية والحكومية والبرلمانية والشعبية التي طالبته بالترشح لولاية ثالثة) وإمساكه بمفاصل الحياة الحزبية والحكومية من خلال ترؤسه حزب روسيا الموحدة (الحزب الحاكم)، والحكومة بوصفه رئيساً للوزراء. وترك بوتين خلال رئاسة الرئيس المنتهية ولايته ديمتري ميدفيديف بصمته على توجهات روسيا الداخلية والخارجية. وقد أشار إلى هذه الحقيقة خطابه الشهير في مؤتمر الأمن والتعاون الدولي في مدينة ميونخ في عام 2007 (قبيل أقل من عام على انتهاء ولايته الرئاسية الثانية) أكد فيه على ثوابت النهج الروسي على الصعيد الدولي، وكيفية التعاطي مع المتغيرات الكثيرة التي شهدها، ولا يزال العالم، وفي مقدمتها ضرورات “التوازن” في المواقف الدولية. وسلبيات الأحادية القطبية الأميركية، والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، وتقوية دور الروابط والتكتلات الاقتصادية – السياسية الإقليمية والدولية، والإصرار على استعادة الأمم المتحدة لدورها العالمي بوصفها المرجعية الدولية الأولى. كذلك في إطلالاته المتكررة كرئيس للوزراء وزعيم للحزب الحاكم، للتعبير عن رؤية روسيا (الحكومة، الحزب.. الخ) وموقفها من الأحداث والتطورات في روسيا والعالم، وكيفية التعاطي معها. ورغم أن منافسي بوتين هم زعماء وقادة الأحزاب – الكتل البرلمانية الثلاث، إضافة إلى الاقتصادي – الملياردير ميخائيل بروخروف، فإن أبرزهم غينادي زيوغانوف زعيم الحزب الشيوعي، الذي حل في المرتبة الثانية بنحو 18,3 بالمئة من الأصوات. وعلى الرغم من أن ماهية الانتخابات الرئاسية، قد مهدت إليها انتخابياً وعملياً نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت في (4/12/2011) وحل فيها حزب روسيا الموحدة في المرتبة الأولى، تلاه الحزب الشيوعي بقيادة زيوغانوف بحصوله على 94 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان “الدوما” الـ 450. ثم أحزاب روسيا العادلة بقيادة سيرجي ميرونوف والحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة فلاديمير جيرنوفسكي. وفي الوقت الذي شهدت فيه نتائج الانتخابات البرلمانية انتقادات أميركية، رفيعة المستوى، كذلك من بعض الدول الغربية، شككت في مصداقيتها ونزاهتها، ودعت عملياً إلى التظاهر ضد هذه النتائج. (لم تسجل مظاهرات حاشدة ومستمرة). رد عليها آنذاك بحزم رئيس روسيا ميدفيديف، ورئيس الحكومة بوتين بدعوتهما الغرب إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية الروسية، وتعليم الروس كيفية ممارسة الديمقراطية الانتخابية. فإن واشنطن وقلة من أصدقائها سجلوا نفس الملاحظات تجاه النتائج الانتخابية الرئاسية، وطالبوا مرة أخرى بشعار التظاهر. في الوقت الذي دعا فيه بوتين وميدفيدف الآخرين إلى التعلم من الديمقراطية الروسية. في تأكيد منهما على النسبة العالية للمشاركة الانتخابية، وخاصة في الأقاليم الروسية ومنطقة القفقاس المتعددة القوميات والأعراق، وحجم الأصوات التي نالها بوتين. وأكد بوتين في خطاب النصر الذي ألقاه في ساحة مانيج (كبرى ساحات موسكو) وأمام مئات الآلاف من أنصاره على حتمية فشل “التشويش” الأميركي وعدد من الدول الغربية على نتائج انتصاره الباهر، مقارنة بحجم المشاركة الانتخابية في غالبية الدول الغربية، كذلك نسب نجاح الكثير من الرؤساء. يستند بوتين (الذي سيتسلم مهماته الرئاسية في السابع من أيار القادم) إلى العديد من الإنجازات على الصعد الداخلية اقتصادياً واجتماعياً، وعلى الاستقرار الذي تشهده روسيا منذ أكثر من عقد من الزمن، رغم إقراره بضرورة مواصلة العمل ضد الفساد وسوء الإدارة هنا وهناك، والأهم أنه يستند إقليمياً وقارياً ودولياً إلى حالة روسية أفضل، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل 12 عاماً. وبخاصة نجاح روسيا في إقامة وتعزيز منظمة شانغهاي للتعاون الدولي، قبل نحو 10 سنوات (تضم إلى جانبها الصين وأربع جمهوريات آسيوية سوفييتية سابقة) وإلى قيام مجموعة بريكس العام الماضي (تضم روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا وتمثل 40 بالمئة من سكان العالم) ومحاولاتها تعزيز عمل رابطة الدول المستقلة (جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق) وتطوير آليات التعاون لمنظمة الأمن الجماعي (تضم العديد من جمهوريات الرابطة). فضلاً عن علاقات روسية أفضل مع العديد من الدول الأوروبية ومشاركتها النشطة في العديد من الروابط القارية والعالمية الأخرى. وإلى تعزيز دور روسيا الدولي، والدعوة من أعلى المنابر (الأمم المتحدة، مجلس الأمن الدولي) إلى ضرورة إعادة التوازن في عمل هذه الهيئات الدولية، والكف عن سياسة الإملاءات الأميركية وأحاديتها القطبية السائرة نحو الأفول. كما يستند بوتين في رئاسته الجديدة إلى الواقع الفعلي الاقتصادي، الاجتماعي المالي الأميركي وأزماته المستمرة منذ عامي 2008-2009، وإلى الأزمات الحادة التي تشهدها أوروبا اتحاداً ودولاً . (طالب الاتحاد الاوروبي روسيا، الصين، الهند، تقديم قروض أو سندات خزينة للاتحاد). على غرار سندات الخزينة التي قدمتها ولا تزال الصين للولايات المتحدة. ولا نغفل هنا تطوير مستوى العلاقات الروسية – الصينية الثنائية وتبعاتها القارية والدولية، ومواقفهما المشتركة، وصولاً إلى التنسيق في المحافل الدولية وبخاصة تجاه المتغيرات الأخيرة في المنطقة العربية، والفيتو المزدوج الروسي – الصيني مرتين متتاليتين ضد مشاريع قرارات أميركية – غربية فاشلة ضد سورية. ورفض التدخل “الدولي” في الشؤون الداخلية السورية ودعوتهما وأصدقائهما إلى ضرورة الحوار الوطني السوري والحل السياسي، وإدانتهما مواقف أطراف في المعارضة، وبخاصة المرتبطة بأجندات خارجية، والمجموعات المسلحة وامتدادات التطرف الأصولي ومن ضمنه القاعدة وتزودها بالسلاح وقيامها بعمليات عسكرية ضد مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدماتية، والتعرض للمدنيين ايضاً. وتكرارهما في أكثر من مناسبة عن عدم إمكانية تكرار السيناريو الليبي. كذلك الموقف الروسي – الصيني المشترك تجاه الملف النووي السلمي الإيراني، وضرورة حله سياسياً (نشير هنا إلى المبادرة الروسية) من خلال استئناف المباحثات السداسية (الدول الخمس دائمة العضوية زائد ألمانيا)، ومن ملف شبه الجزيرة الكورية. فضلاً عن التصويت المشترك في العديد من المؤسسات والهيئات الدولية الأخرى (مجلس حقوق الإنسان، الوكالة الدولية للطاقة.. الخ) لهذه الأسباب وغيرها يجد بوتين نفسه رئيساً في وضع أفضل من ولايتيه الرئاسيتين السابقتين، اللتين مهدتا الطريق عملياً لهذه النتائج التي تحققها روسيا حالياً، ومستفيداً من التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان الروسي قبل عامين بتمديد الولاية الرئاسية من 4 إلى 6 سنوات. بوتين الذي طالب واشنطن أن تتعامل مع روسيا في الملفات الإقليمية والدولية بـ: (آذان منصتة وعيون مفتوحة) يقدم نفسه رئيساً لكل الروس بعد عقده مؤخراً اجتماعاً سريعاً مع منافسيه الآخرين (مع اعتذار زيوغانوف عن المشاركة)، وتأكيده على ضرورة مواصفة سياسة روسيا الداخلية والإقليمية والدولية. وهي التي ساهمت إلى جانب عوامل أخرى في هذا الفوز الكبير لبوتين رئيساً. باحث في الشؤون الدولية
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||
