رجع إليه، راجعه الكلام: جعله يعيده، وحاوره إياه إن الفارق النوعي بين «المراجعة» و«التراجع» هو هدف هذه المقالة، ومنذ البداية نشير إلى أن «المراجعة» هي فعل ذاتي يختاره الإنسان في مواجهة ذاته، إذا كان من الذين يحاسبون أنفسهم أو يعيدون تقديم أمورهم، أو مراحل معيّنة من حياتهم وليست الاجتماعات التي يدخل في أهدافها التقييم والتقويم إلا وقفة مراجعة لإغناء ماهو ناجع وناجح، ولتجاوز مايصنف في باب التقصير، ويدخل في هذا التصنيف مجالس الشركات، ومؤتمرات الأحزاب والمنظمات وخلايا إدارة الأزمات وماشابه، أما «التراجع» فهو ناتج عن ظروف قسرية فرضت على هذه الجهة أو تلك، على هذا الفرد أو ذاك أن يتراجع عمّا كان عليه، قد يكون المتراجع عنه موقعاً أو فعلاً، أو خطة، وفي التراجع شيء من القسر، ورائحة فشل ما، وثمة حضور لقوّة ماكانت وراء ذلك التراجع هي التي أوصلت الأمور إلى حيث هي، لافرق في النتيجة أن يكون الإهمال،أو التسيّب أو أن يكون هجمة من خارج من المفيد أن نتنّبه إلى أن المراجعة والتراجع يحملان ضمناً قيمة أخلاقية لأن الهدف من كليهما هو تخطي النواقص التي أوصلتنا إلى تلك المواقع، ويريد حضور هذه القيمة كثافة وفاعليّة أن المسألة الأخلاقية فيما تشمل كلاً من الفرد والجماعة من حيث الآثار المترتبة، أو المطلوبة ولقد أوصت الديانات السماوية بإجراء جردة حساب يوميّة يسأل فيها الإنسان نفسه ماالذي قدمه من خير، وماالذي فعله من شرّ، لتكون يقظة المساءلة حاضرة ولتكون القدرة على العدول في أوج مثولها، كدليل على الرصد والمحاسبة والقدرة على الانتقال إلى ماهو أفضل،لاشك أن السّادرين الذين لايجدون فرصة لمساءلة النفّس أو يهربون من هذا الموقف.. هم الأكثر خيبة في المآل،ومثل هذا ينطبق على الأمم والشعوب في مسيرة حياتها، فالذين يختارون من الأنظمة مايزيد من فاعلية المساءلة وتبيان النواقص لترميم الخراب الناتج هم الأكثر قرباً من تحقيق بعض تطلعات الإنسان في رحلته المضنية الباحثة عن العدالة الاجتماعية والكرامة، وحماية الأمة من خطر الأعداء.
الذي دفعني لمعالجة شيء من هذا الموضوع هو مافوجئت به من قبل صديق تمتدّ صداقتنا على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، فبعد انقطاع فرضته ظروف الحياة إلا من هاتف هنا وآخر هناك، كان كلّ منا يحمل تلك الشحنّة النفسيّة الطيّبة، بحسب تقديري وبعد مرور أكثر من أحد عشر شهراً على الأزمة التي عاشتها سورية أتيح لي أن ألتقي به، وكنت أرجح أن الثوابت التي نحملها كمبادىء وشعارات، ستظل الحامل، والجسر معاً لأحلام جيل لم يكن ما آمن به محض خيال، أو توق شاعر، بل هو ممّا يستأهل أن تخاض من أجله المعارك فد آمنا معاً بالعروبة، وبالوحدة العربيّة، وبالحرية والاشتراكية، وكلانا منذ زمن طويل خارج أي تأطير تنظيمي وكما هو معلوم، فإن سخونة الأحداث بمثولها وباحتمالاتها، وبالهجمة الغربية الأعرابية.. هي محور أي لقاء بين اثنين أمضيا زمن وعيهما في سبيل قضية آمنا بها غير أنني بعد نقلتين أو ثلاث وجدت أن الذي أتحاور معه ليس ذلك الذي عرفت!!
لقد كان صوتاً آخر في المضمون وإن ظلت نبرة الصون وهوية صاحبه الشكلية.
لم أكن أطمح إلى أن نتقابل على ذات الجسر، بل صرت حريصاً على ألا نفترق فيسير كل في اتجاه وقد عزّ عليّ ذلك، فالقيم التي تنشىء صداقات عالية يبكي عليها حين تهدمها توهمات طارئة عابرة.
لعل من أبرز ماسمعته منه:
- أن هذا النظام لم يعد محل ثقة في أعمق حضور له.
لماذا لانجرب الأخوان المسلمين في استلام السّلطة فهؤلاء لم يحكموا بعد.
قد يبدو هذا الطّرح في الزمن الذي نمرّ به من المتداول بيد أنك حين تسمعه ممّّن كان النضال القومي التقدمي محور حياته فهذا يدلّ على أننا نمرّ بمضائق تستدعي التوقف.
وسأتوقف عند هاتين النقطّتين.
1- القول بأن النظام لم يعد محلاً للثقة، قول فيه تعميم وقسوة وصرامة تكاد تغلق حتى أبواب النقاش وذلك لأن الحقبة التي حكم فيها البعث مع الجبهة ليست واحدة وإلا لما كنا حيث نحن الآن لذا لابدّ من النظر إلى الإيجابيات التي تحققت وفي مقدمتها المقاومة،أقول هذا هناك أثق بحسن نصر الله أكثر ذلك جانب، أما الجانب الأهم فهي أن سورية تمخضت، في أزمتها عن بلد متعدّد ديموقراطي، ولم تعد كما كانت وماتعد بعد، يستحق أن نعمل من أجله ومساحة هذا الوعد ليست وقفاً على الحدود السورية، بل هي تبشر بعودة جماهير الشارع العربي الوحدوي الرّافض للرجعية والصهيونية.
2- أما عن مسألة أن نكون تجريبيين لدرجة أن نقول لجماعة الأخوان تعالوا واستلموا مقاليد السلطة فما أعتقد أن عاقلاً يمكن أن يقبل بهذا لأسباب كثيرة منها.
أ- أن جماعة الأخوان لايمثلون الشارع الإسلامي، بل هم الجزء الأقل فيه بيد أنه الجزء الأكثر تنظيماً والأغنى تمويلاً من دوائر الغرب والرجعية العربية المتمثلة بمشيخات الخليج.
ب - جماعة الأخوان، بمن شايعهم وتابعهم قدموا من أوراق الاعتماد لإسرائيل مايجعلها على درجة عالية من الاطمئنان وهو يكشف عن أحد الوجوه المركزية للمعركة الدائرة والتي هي في أساسها وفي جوهرها معركة وجود مع العدو لامعركة حدود.
في سياق مانحن فيه خطر لي العديد من الأسئلة:
- هل يترك التقدم في السن آثاراً تذهب بالمرء إلى حيث وجدت صديقي؟
وإذا كان الأمر على هذه الصورة فلماذ لم أتلق الآثار النفسية والفكرية ذاتها فأكون مثله؟
هل ثمة مايهجع في الروح هو ناتج البيئة، والتربية، والعادات والتقاليد ومجمل ثقافة المكان يهجع لدرجة الغياب فإذا وجد الفرصة السانحة استيقظ ومن ذلك تلك الهجمة الإيمانية التي تداهم البعض في أخريات حياتهم؟
أنا هنا لا أنتقد الإيمان -لاسمح الله- فتلك مسألة شخصية، وشرط نقائها أن تظل شخصية في الممارسة وفي الاعتقاد ضماناً لمثول حرّية المعتقد المصانة بدستور البلاد.
- ترى هل كان بعضنا مزدوجا في انتمائه، فهو معاصر، مواكب في السياسة وفي الشعارات وفي الثقافة السائدة كواحد من أهلها وفي الوقت ذاته كان ينطوي على شخصية أخرى قد لاتختلف عن شخصية الجدّ المسكون بالخرافة من جهة أخرى؟!!
أنا لا أفهم مثل هذه الشخصية في بيئة كبيئتنا، فأحد المثقفين وله اسم لامع تحدثنا ذات مرة عن العوالم الأخرى فحدثني عن قريبة له كانت تؤاخي جنياً وحدّثني بما يثير العجب، وهو الكاتب اليساري التقدّمي العلماني!!
أنا لم أستطع على سبيل المثال تقبل أن يقبّل خالد مشعل يد القرضاوي وربما رأيت العكس، لأن المناضل المقاتل هو الذي تقبل يده لا الذي يفتي بتكفير من خالفه ويحرّض على القتل وإثارة الفتنة... أعتقد أن واحدة مما يتمتع به القائد العربي الإسلامي الفذ حسن نصر الله أنه قال لمقاتليه في حرب تموز مامعناه أنه يقبل مواطىء أقدامهم فالذين يواجهون العدو ببسالة ووعي هم الذين تقبل مواطىء أقدامهم، لا أيدي الذين يثيرون الفتنة والتكفير ويبعثرون الأمة، ويعملون أجراء لدى مشيخات الأعرابالأجراب.
ترى مالذي يجعل مناضلاً كخالد مشعل ينزلق هذه الانزلاقة الفاتكة أهي روح الحنين للتنظيم الأخواني الأول، وهل التنظيم أهم من الأقصى ومن تحرير فلسطين ؟!!
سؤال ماأظن أنه يقع بعيداً عن مطارح الأسئلة المحمولة في هذا الزمن ترى أين يقع هذا من المراجعة والتراجع؟.
aaalnem@gnail.com