وخاصَّةً حين نعرفُ أنَّ الفعل الثقافي هو فعلُ تخصيبٍ للأفكار التي لا تنبتُ إلا في العقل. لأنَّه عندما نرسمُ أو نكتبُ أو نقرأُ أو نمثِّلُ أو نرقص, أو حين ندخلُ في حربٍ, أو نذهبُ إلى سِلْمٍ لانجيءُ من الخلفِ؛ بل نجيءُ من الأمام؛ ونطلبُ المبارزة: فارسٌ لفارس, وعشرة لفارس.
كيفَ تطيرُ الذكريات؟. إِرثُنا المعرفي والفكري الذي هو(الماضي) ماضينا(العقلي) الذي كتبه الأجداد؛ الذي لا يزالُ- لا تزالُ ثمارُه يانعة- كيفَ تطير؟. لقد نالت جحافلُ (المغول) في اجتياحها بغداد من هذا الإِرث. لكنَّها- لكنَّهم لما خرجوا منها, خرجوا وقد تَغَسَّلوا بماءِ المعرفةِ والحكمةِ العربيتين, تأثَّروا بهذا الإرثِ المعرفي والفكري وتداولوه بينهم, وشعروا أنَّ العربَ يملكون إرثاً(ثقافياً) لايقلُّ أبداً عمايملكه اليونانيون, بل يسبقه ويزيد عليه.كيفَ نُطيِّرَهُ؟ في حين أنَّ هناك أُمَماً وقوميات تشكَّلت في القرنين الماضيين مثل الأمُّة(الأميركية) التي نراها تختلقُ تُراثاً, تاريخاً. تُقيم حروباً كي تُثْبِتَ أنَّها (أُمَّة) في حين أنَّها ليست أكثر من (ماركة) لسلعةٍ استهلاكيةٍ سَيقِّلُ الطلبُ عليها تدريجياً, لأنَّ الوطنية وَمِنْ ثَمَّ القومية هي ذاكرة(جمعية), تاريخٌ يغلي؛ يشتعلُ بالعواطف. هل تعرفون؟.. إنَّ أجدادنا عندما وضعوا أوثانَهم حولَ (الكعبة) الشريفة قبل بعثةِ رسولنا محمد(ص) إنما كانوا يضعونَ عقائدهم- معتقداتهم ليس الدينية؛ بل الوطنية. فعبادتُها كانت عبادةً لفكرة(الوطن)؟؟ وليس عبادة(لوثن). كانت عبادةً وتقديساً للأرض(المكان) الذي صنع شرخاً قاتلاً لدى كلِّ شعراء العصر الجاهلي عندما كانوا يرحلون عنه- عن المكان إلى حربٍ أو إلى سلام ثُمَّ يعودون فلا يجدون غير موضعِ القِدْرِ أو مربَط الفرس, فتختنقُ صدورهم بالألم والغضب وتتحجَّر الدمعة في مآقيهم : (قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل/هل غادر الشعراء من متردَّمِ) . فالمكان معبودٌ مقدَّس عندنا نحنُ العرب.. بينما عندَ الأممِ والقوميات المحدثة فهو بضاعة, لأنَّها أممٌ, قومياتٌ, شركاتٌ تجاريةٌ المساهمونَ فيها كثرٌ ولا يهِمَّهُم سوى(الربح). سوى ماتحقِّقه من أرباحٍ هذه الأمَّةُ الشراكةُ المؤسَّسةُ الجمعية الاستهلاكية. لأنَّ ثقافةَ الشركات ثقافةٌ عنصريةٌ لا دِينَ ولا هوية ولا وطن لها. لذا يتهيَّأُ لي أنَّ(المدينة الفاضلة) مدينة اللامكان التي اخترعها أفلاطون؛ هي أوَّل حُلمٍ نسَجه الإنسان على الأرض كي يمارسَ إنسانيته, فلا تصير الحرية(صفقةً) ولا العبودية(عقوبة). أليس الحلمُ الأفلاطوني هذا هو فعلٌ ثقافي يرقى بروح وجسد الإنسان ويحترم كرامته, وكأنَّ أفلاطون يريد أن يقول: يمكن أن نصنع الجنَّة/جنَّة الفقراء على الأرض. لكن بشرطِ أن نَطرُدَ منها الأغنياء كي لا يبحثَ أحدٌ عن فضل القيمة.
طبعاً أفلاطون لم يرتكب أيَّ حماقةٍ في تصوِّره هذا لجمهوريةٍ؛ لجنَّةٍ فوق الأرض. فهو يريد ودون تخريف أن يُطوِّر(الكمَّ) إلى(كيف). هو يُريدُ الإنسانَ وقد رُفِعَ عنه الظلم, أي- أنَّ أفلاطون يقوم بممارسة الفعلِ الثقافي- أي يمارس فكراً, تفكيراً ثقافياً. طيِّب- لماذا عندما نحيل الأمر-النتيجة- هذه التي وصل إليها الفيلسوفُ المفكِّرُ سواء كان أفلاطونَ أم غيره من الفلاسفة(الطيبين) إلى الساسة؛ نحيلها إليهم؛ نراهم
وحتى دون أن يبعثوا بها إلى مخابرهم قد تشنَّجوا و(عصَّبوا) وربَّما انفجروا واعتبروا أنَّ الفلاسفة والمثقفين بما فيهم الأدباء والفنانون عميان, وفقط وحدهمُ «الساسةُ» وحدهم المبصرون؟.