تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


توكفيل فيلسوف.... السياسة

كتب
الأربعاء 14-3-2012
بقي الهاجس المقيم لفكر توكفيل، ذلك المرجع الذي انطلق منه لرسم حدود حياته جنباً إلى جنب حدود المهمة المطروحة على جيله متمثلاً بانتعاش ما هو سياسي بصحوة الشيء العام.

فتصعيد ما هو سياسي واجتراح ذات عامة كانا اثنين من ملامح معارضة توجهات الخصخصة اللذين وفرهما مثل أي من كتاب زمانه للنقد المرجعي. عموماً يعزى لتوكفيل فضل صوغ تعبير الفردية وقيامه بجعله جنباً إلى جنب الرديف (الخصخصة) اثنين من العناوين الدالة على الحداثة، قد يكون توكفيل آخر المنظرين النافذين الذي يمكن عدهم مهتمين صدقاً بالحياة السياسية. قليلون هم من فعلوا ذلك من معاصريه، فماركس كان يرى السياسة ضرباً من ضروب القتل، أما جون ستوارت مل فلا يترك إلا الانطباع المزعج عن فيلسوف يسد أنفه وهو يكتب عن السياسة ويحاول أن يتجنب رائحتها النتنة عبر إخضاعها لعملية تطهير تأثير أهل الخبرة فأي من ماركس ومل لم يكن قادراً على تأليف آية الرثاء المحشورة في إحدى الملاحظات المدسوسة بين أوراق توكفيل، فلم تكن فكرة توكفيل عما هو سياسي غامضة بمقدار ما كانت مشطورة بين ما هو بطولي (ملحمي) من ناحية وما هو عادي مبتذل من ناحية ثانية..‏

يتناول كتاب شلدون أس فول هذا أهمية فكر ألكسيس الأكثر نفوذاً في التاريخ الأميركي والذي عاش أيضاً حياة استثنائية في فعاليتها وطموحها في بحر السياسة الفرنسية، يقوم المؤلف شلدون أس فولن وهو واحد من أهم أساتذة التنظير السياسي في أميركا مستنداً إلى عقود من البحث والتفكير بتقديم العمل الأول الذي يضطلع بمهمة المزاوجة الكاملة بين حياتي توكفيل السياسية والنظرية وينجح في توفير تفسيرات وتأويلات جديدة لمؤلفات توكفيل الرئيسية كما لموقعه في تاريخ الفكر والثقافة. يقول المؤلف: من بداية هذا المجلد إلى نهايته حاولت تذكر ثلاثة هواجس رئيسية حاولت أولاً: تقديم تصور لما كان توكفيل يعنيه بالنظرية السياسية، كيف عاشها ومارسها وكيف حاول أن يزاوج الحياة النظرية مع احتراف السياسي للسياسة.‏

حاولت ثانياً: معاينة تصوره لما كان توكفيل يعنيه بالنظرية السياسية، كيف عاشها ومارسها وكيف حاول أن يزاوج الحياة النظرية مع احتراف السياسي للسياسة. حاولت ثالثاً معاينة تصوره للديمقراطية بوصفها مشروعاً سياسياً ونظرياً في الوقت نفسه، وحاولت رابعاً أن أبين أن كتابات توكفيل وتحركاته كانتا شديدتي الاهتمام بانبثاق ما كان سيطلق عليه فيما بعد اسم سياسة الحداثة وقد قمت بعكس معالجته لهذه الهواجس على (الماضي) عبر عطفها على أسلافه النظريين ولاسيما على مونتسكيو روسو، الأوراق الفيدرالية، وبورك، وبادرت إلى مقارنة أفكاره بأفكار عدد معين من معاصريه مثل ماركس وسان سيمون.‏

ينطلق فولن من معاينة كتابات توكفيل الرئيسية في ضوء تجاربه في غمرة العالم المضطرب للسياسة الفرنسية، أيضاً الكتاب يقدم مسحاً تاريخياً شاملاً يمكننا من الغوص في أعماق فكر توكفيل وعلاقات هذا الفكر بالنظريات السياسية ومفكرين آخرين والأهم المؤلف قد أبرز أن أطروحة توكفيل ما هي إلا إحياء لما هو سياسي في الديمقراطية ومضاد للتوجهات الديمقراطية.‏

في الفصل الثاني والعشرين من الكتاب يأتي بعنوان (المذكرات - ذكريات في حالة هدوء) يتعرض فيه الكاتب لكتاب (المذكرات) لتوكفيل الذي كتبه بين عامي 1850 و 1851 بعد أن كان قد عزل من منصبه في تشرين الأول 1849، ظل نائباً في البرلمان حتى وقوع انقلاب لوي نابليون في الثاني من كانون الأول 1851، واضح من المخطوطة الموجودة أن توكفيل كان حين أقدم على المشروع أولاً يفترض أن من شأن تقاعده السياسي أن يكون مؤقتاً، توقف عن الكتابة قبل الانقلاب بشهر واحد، ربما كان التشوش الفاصل قد جعله يتردد حول النشر مباشرة ومع التعزيز السريع للاستبداد البونابرتي وأجهزة الرقابة، لم يعد النشر عملياً، وواقع عدم نشر المذكرات في حياته يوحي بنوع من عدم الاكتمال.‏

بين سائر مؤلفات توكفيل لعل كتاب المذكرات هو الأكثر اتصافاً بالمسرحية الدرامية الذاتية، فتوكفيل هو المؤلف والبطل في الوقت نفسه في جملة الأحداث التي يجري تصويرها بما يمكنه من التمتع بامتياز، قليلون ممن مثلوا على خشبة مسرح من تصميم ما يجري عرضه وتسجيل من ناحية ومراجعة من ناحية أخرى مع تلاعب فعلي بالمعنى المزدوج لكلمة (سيتذكر) إما استدعاء أو تذكراً لكيفية ظهور الممثلين والأحداث أمامه في ذلك الوقت في تذكره لأفعال وأحداث ماضية من وجهة النظر البعيدة التي يتمتع بها الآن تم إنجاز المذكرات في مكان بعيد، كان توكفيل قادراً على إلباس التذكر ثوب فهم نظرياً محدداً فتوكفيل سيصور نفسه لا أوتوبيوغرافياً (من منطلقات السيرة الذاتية) وحسب بل بوصفه بطلاً رمزياً يشكل كيانه موقع تقاطع أزمة سياسية وأخرى شخصية، أزمتان دائبتان على دفع المجتمع نحو مستقبل يلفه الغموض والضباب مع حفز توكفيل على التقاط لحظة اكتشاف ذاتي وخلاص سياسي حتى تجربة يقين وقناعة نادرة وإن سريعة الزوال.‏

ليس كتاب المذكرات ذاتي الخدمة، بمعنى بسيط يحاول توكفيل إعادة خلق تشوشاته لا لتدوير زواياها أو حتى لحلها.‏

لذا فهو لايدعي إلا قدراً محدوداً من الرؤيا وينأى بنفسه عن تصوير (مؤلف /بطل كلي المعرفة) والاطلاع على الأسباب الكامنة وراء الأحداث أو حصائلها حيث يقول: (لم يسبق لي أن كنت قادراً آنذاك على إدراك مكان وجود الحقيقة، الشرف وأصحاب النيات الطيبة إدراكاً كاملاً وأعلن أنني حتى الآن لست قادراً على ذلك بنجاح) تلك الكلمات تلمح إلى كارثة لا تلبث طبيعتها أن تكتسب قدراً أكبر من الوضوح إذا ما تم رفد المذكرات بمراسلات توكفيل المعاصرة مع أكثر أصدقائه حميمية، شكواه الدائمة في كل من المراسلات والمذكرات هي من عجزه عن الرؤية عن الالتقاط النظري لاتجاه مسار الأحداث ولطبيعة الأفعال المطلوبة بدلاً من ذلك ثمة إلى ذلك الغموض المتزايد عمق الذي ينتشر مغطياً اللوحة وهي شديدة الغموض دائماً، تلك اللوحة التي نطلق عليها اسم المستقبل، ضع نفسك مكان رحالة يبحر في ليلة كانونية غير مقمرة مكفنة بالضباب ثم قل أي متعة قليلة سينعم بها وهو يتابع المنظر العابر من شباكه، هذا الإنسان الرحالة هو (فرنسا) ذلك هو الليل الذي يحيط بنا، أولئك الذين يملكون المناظير المقربة لا يرون أبعد مما لا يتوفرون إلا على عيونهم العارية.. في الوقت نفسه يصلون معاً إلى الهاوية.‏

كان مأزق توكفيل نتاج جملة من الشروط السياسية المختلفة اختلافاً لافتاً عن تلك المدعاة أو المفترضة تقليدياً من جانب كتاب سياسيين وبالنسبة إلى منظرين متناقضين تناقض أفلاطون وماكيافيلي كان التحدي متمثلاً بصوغ أو تملق أبطال دفعاً لهم إلى أن يصبحوا أدوات حقيقية نظرية، أما مشروع توكفيل فقد كان أكثر تعقيداً بما لا يقاس، كان توكفيل يطمح إلى أن يكون البطل الأداة لنظريته الخاصة في وسيلة سياسية مجهولة إلى حد كبير لدى أساتذة التنظير السياسي فيما قبل القرن التاسع.‏

الكتاب توكفيل بين عالمين اجتراح حياة سياسية ونظرية. - تأليف: سلدون أس فولن. - ترجمة: فاضل جتكر، سلسلة دراسات فلسفية العدد (4) قطع متوسط في 863 صفحة، صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية